مجله البيان (صفحة 138)

الافتتاحية

.. والحديث مستمر حول حطين

قد يبدو من الغريب أن يتفق الخصوم على الاحتفال بذكرى موقعة كانت

نصراً لجانب، وهزيمة لجانب آخر، وأن يتبارى الجانبان في إعادة دراسة هذه

المعركة وتقويمها واستخلاص الدروس منها.

ولكن هذا الأمر لا ينبغي أن يثير العجب إذا كان حول معركة مثل معركة (حطين) . فإذا كانت هذه المعركة تمثل علامة بارزة في التاريخ العربي ... والإسلامي، وتعتبر وسام فخر واعتزاز لا للقائد الذي قادها - وهو صلاح الدين - فحسب، بل للأمة التي عمل من أجلها، وللفكر الذي كان صلاح الدين يمثله، وهو الفكر الإسلامي - فإنها تعتبر نقطة مهمة في التاريخ العالمي. فعلى الرغم من أن الصليبيين قد انهزموا فيها هزيمة منكرة، ولم تقم لهم بعدها قائمة تذكر، إلا أنهم انكبوا على دراسة النتائج التي حصلت نتيجة احتكاكهم المسلح بالمسلمين، وعكفوا على الانتفاع من معرفتهم لأحوال المسلمين عن قرب، ومن تحليلهم للعوامل المؤثرة في انتصارهم وهزيمتهم، وهكذا شكلت معركة حطين منعطفاً مهماً في حياة الغربيين. وكذلك فإن حوادث التاريخ قد تتشابه، فاحتلال اليهود لفلسطين، وإقامتهم دولتهم فيها بمساعدة ومساندة من الغرب الصليبي، في فترة ضعف وتفرق من المسلمين؛ وعلى الرغم من مرور أربعين عاماً على ذلك، ... ومع هذا، وعلى الرغم مما ينتاب العرب من مصاعب ومآسٍ، وما يعوقهم من شتات وتناحر؛ فإن إسرائيل لازالت جسماً غريباً مرفوضاً من الغالبية العظمى للشعوب المحيطة بها، ولا يبدو في الأفق أي تغير في تقبل هذه الشعوب لهذا الجسم الغريب، على الرغم مما يجري بين الحين والآخر مما يسمى بالصلح أو بإمكانية التعايش.

لهذا كله قد يبدو مفهوما أن يتنادى مؤرخو الحروب الصليبية إلى مؤتمر لهم

في القدس وحيفا بمناسبة مرور 800 سنة على معركة حطين.

ومن جهة أخرى نجد أن أكثر دولة عربية دعت إلى الاحتفال بهذه المعركة،

إن لم يكن غيرة وخجلاً من احتفال الأعداء بها؛ بينما نحن أولى منهم بذلك، فلأن

الواقع المؤلم الذين نعيشه يفرض علينا أن نجند كل طاقاتنا المعنوية إلى جانب

الطاقات المادية في وجه الذين يستهدفون عقيدتنا وأرضنا بل وجودنا كله.

وإذا كان احتفال الدول العربية بهذه المناسبة ينطوي - في جانب منه - على

إدراك محمود لأهميتها ومكانتها من مجمل تاريخنا وصراعنا مع قوى الشر، إلا أنه

مما يحز في النفس، ويؤلم الفؤاد، أن يجيء إحياء هذه المناسبة بصورة تخالف

عملياً دلالتها التوحيدية. إذ، أي شيء أكثر ألماً وأقسى أثراً من احتفال كل دولة

على انفراد، وبطريقتها الخاصة؛ بهذه المعركة الخالدة؟ .

أليس من التناقض، بل ومن السخرية والهزء بمعانيها وبالأهداف التي عمل

لها قائدها: صلاح الدين؛ أن نحتفل بها، بينما نطبق عملياً فكر من هزمهم صلاح

الدين، ونرفع بيننا حدود من أجلاهم صلاح الدين، ونعمق معاني العصبية

والإقليمية والطائفية التي حاربها صلاح الدين؟ .

ثم أليس من الفكر المشوه الذليل، والترديد الممجوج الثقيل، الذي يمثل غباء

في فهم التاريخ وإصراراً عليه؛ ما نقرأه للأمين العام للجامعة العربية في هذه

المناسبة حيث يقول:

(… إن الحروب التي سميت بالصليبية؛ لم تكن حقيقة صراعاً بين الإسلام

والمسيحية بقدر ما كانت صراعاً بين مشروع استعماري، وبين مقاومة وطنية،

وقد حلل المؤرخون الغربيون هذه المسألة، ودعوا إلى كثير من الحذر في تصديق

النظرية القائلة بأن هذه الحروب تمثل صراعاً دينياً ... ) .

هل يدعي حضرة الأمين العام أن العلاقات بين الإسلام والمسيحية منذ أن

ختمت الرسالات برسالة الإسلام إلى يوم الناس هذا كانت سمناً على عسل! ؟ وهل

يستطيع أن يرشد الناس إلى خط السلام المضيء الذي قابلت وعاملت به المسيحية

الإسلام في أي بلد جاورته فيه؟ ؛ وهل الراهب بطرس الذي أطلق صيحاته

المسعورة في جَنَبَات أوربا؛ يستعديها ويستنفرها (لاستنقاذ قبر المسيح من الكفار) ،

لأن الفرصة لائحة وقد لا تتكرر؛ لم يكن مسيحياً، بل علمانياً ملحداً من الهراطقة، قد حكم عليه (بابا روما) ومجلس الكرادلة بالحرمان لأجل ذلك؟ !! ... ...

بل هل كان قادة الحروب الصليبية من أمثال: فريديك بربروس الألماني،

وفيليب أوغست الفرنسي، وريتشارد قلب الأسد الإنكليزي، ولويس التاسع،

وغيرهم وغيرهم؛ نقول: هل كانوا ممن عوقبوا بالحرمان، وطردوا من رحمة

الكنيسة! ؟ ثم ما هذه المصطلحات: مشروع استعماري … مقاومة وطنية! .

هل كان مصطلح: (الاستعمار) قد خرج إلى حيز الوجود في ذلك الزمن

البعيد؟

وهل كانت كلمة (مقاومة) قد ترجمت وأقحمت في اللغة العربية إقحاماً متعمداً، ... وأبعدت كلمة (الجهاد) وغيرها ذات المدلول والمفهوم الإسلامي عن طريقها، إرضاء لخواطر الغربيين وعبيدهم الذين يدين أمين جامعتنا العربية العتيدة لمرجعيتهم الموثوقة بالولاء! .

وهل كان لكلمة (وطن ووطنية) المدلول نفسه الذي ترسخ في وعي المسلمين خلال المائة سنه الأخيرة؟ !

أين المصطلحات التي لم تنهزم أمام زحوف الصليبيين السوداء، ولم تختف

وتغرق في وديان الدماء التي أراقها هؤلاء في استباحتهم كل مدينة إسلامية دخلوها

مصطلحات الجهاد في سبيل الله، والمرابطة في الثغور للدفاع عن حياض

الإسلام، تلك المصطلحات التي لم تستجلب استجلاباً من لغات اليونان واللاتين،

ولا من أدبيات الشرق والغرب، وإنما كانت نابعة من تراث هذه الأمة ومن دينها

وعقيدتها.

ليس عندنا شيء نقوله ... وليس لنا تاريخ نرجع إليه ونستقي منه العلم

بالأحداث وفهمها وتحليلها، ولذلك فليس لنا إلا (المؤرخون الغربيون) ، وهم قد

حللوا - فيما حللوا - هذه المسألة، وحذروا من تصديق مقولة: أن الحروب

الصليبية هي صراع بين الإسلام والمسيحية! وعلينا أن نحذر، وإلا فالويل لنا إن

لم نحذر! ! .

وتكملة لتحليل المؤرخين الغربيين الأمناء فقد توصلوا إلى أن مشعلي الحروب

الصليبية كانوا متآمرين على عقيدة الصليب، خارجين على تعاليم الكنيسة، وما

هزموا إلا عقوبة لهم على ذلك! أليس من أعمدة تعاليم السيد المسيح (عليه الصلاة

والسلام) : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر؟ ! .

إلى هذه النتيجة يجب أن ننتهي، وإلى مثل هذا التخريف ينبغي أن نصغي،

وبمثل هذا الفكر المريض نحس ذكرى حطين، أليست مناهجنا التعليمية تردد مثل

هذا الهراء وتحقنه دون بقية من خشية أو حياء؟ .

لا يصلح الناس فوضى لا سَرَاة [1] لهم ولاسراة إذا جهالهم سادوا …!

لقد كتب الكثير عن حطين وعن صلاح الدين، ولكن ما نود ترديده وتأكيده

في هذا المكان هو أن صلاح الدين سلك إلى النصر الطرق الصحيحة، وأعد الأمة

للمواجهة إعداداً متكاملاً فكان التفكير بالجهاد وإعداد العدة له يسير - جنباً إلى جنب - مع الإصلاح الداخلي لأحوال الأمة، فعدل كثير من الضرائب المضروبة بغير

حق، وأصلح فكر الأمة، فحارب العقائد الفاسدة التي تفتُّ في عضدها وتفرق

كلمتها، وشجع العلماء، وأشاع العدل.

وقد عكس مؤرخ معاصر للحروب الصليبية (وهو وليم الصوري) تخوف

الصليبيين واحترامهم لصلاح الدين في الوقت نفسه، وحسابهم الحسابات للمواجهة

معه فقال: (إن أي نمو في قوة صلاح الدين إنما هو مجلبة لتخوفنا، فهو رجل حكيم عند إسداء الرأي، مقدام في الميدان، وغاية في الكرم) .

ويلخص بهاء الدين بن شداد صاحب النوادر السلطانية مفتاح شخصية صلاح

الدين بقوله: (كان كل كلامه يدور حول الجهاد، وكل تفكيره منصباً على القتال، ...

ولم يكن يهتم إلا بمن حمل السلاح، ولا يعباً بأي شخص له مقاصد أخرى) .

فالفكر الجهادي هو الفكر الذي آمن به صلاح الدين، ولم يدر بخلده - بعد

الاحتلال الصليبي الطويل - أن يضع عن كاهله عبء الجهاد، ولم تحدثه نفسه أن

الأمة قد تعبت من الحرب، وأنه لابد من الاعتراف بالأمر الواقع، والتسليم بحقائق

الأمور، ولم يكن يحركه مثل هذا التفكير ليرسم الخطط ويتصالح مع العدو،

ويلتقي معه على موائد المفاوضات في منتجعات سرية، أو في ردهات قصوره! لا، فقد كان -كما وصفه أبو شامة- ( ... شديد المواظبة على الجهاد، عظيم الاهتمام ...

به، ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد ديناراً ولا درهماً إلا في

الجهاد، وفي الإرفاد؛ لصدق وبّر في يمينه، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل

الله أهله وأولاده ووطنه وسائر ملاذه، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب

بها الرياح يمنة ويسرة) (الروضتين222) .

وكانت نظرته إلى الجهاد ليست نظرة مرهونة بالواقع الذي يحيط به، ولا

تمليها عليه المواجهة مع الصليبيين فحسب، بل هي نظرة مأخوذة من صلب العقيدة

الإسلامية في مراميها ومقاصدها ووسائلها = جهاد دائم لأعداء الله على كل أرض،

وحيث قدر الله له أن يكون. انظر إلى ما يفضي به إلى صديقه ومستشاره: (القاضي الفاضل) :

(متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسمت البلاد وأوصيت، وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائرهم، أتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت) [2] .

غاية واحدة، وهمة عالية، أين منها همم كثير من مدعي البطولات في هده

الأيام، الذين تقاصرت هممهم فلم تعد تتجاوز ظل كراسيهم المهزوزة، وانحصرت

اهتماماتهم في غايات ما أبعدها عن طرق العزة والمجد، ومما أقربها من الضياع

الشخصي والاجتماعي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015