الْأَفْعَالُ الثَّلَاثَةُ فِي كَمَا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.

(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنَا مِنْ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ ; لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ الْأَشْيَاءِ طَرِيقٌ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهَا، أَيْ قَدْ رَأَيْتَ (الَّذِي يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ) لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ أَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ (قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ لَوْ أَبْقَاهُمْ فَلَا تَحْكُمُوا عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا وَلَا يَرْجِعُونَ فَيَعْمَلُونَ، أَوْ أَخْبَرَ بِعِلْمِ الشَّيْءِ لَوْ وُجِدَ كَيْفَ يَكُونُ؟ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ يُجَازَوْنَ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُجَازَى بِمَا لَمْ يَعْمَلْ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا مَا يَقْتَضِي تَعْذِيبَهُمْ ضَرُورَةَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَا لِأَجْلِ الْأَعْمَالِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ ذَرَارِيُّ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ لَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، بَلِ الْمُوجِبُ لَهُمَا اللُّطْفُ الرَّبَّانِيُّ وَالْخِذْلَانُ الْإِلَهِيُّ الْمُقَدَّرُ لَهُمَا فِي الْأَزَلِ، فَالْأَوْلَى فِيهِمَا التَّوَقُّفُ وَعَدَمُ الْجَزْمِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ أَعْمَالَهُمْ مَوْكُولَةٌ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ فِيمَا يَعُودُ إِلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا، وَتَوَقَّفَ بِهِ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي مُسْلِمٍ: " «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُعِيَ لِجِنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقُلْتُ: طُوبَى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، فَقَالَ: أَوَغَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ» ". وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ نَهَاهَا عَنِ الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ، أَوْ قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ. انْتَهَى.

وَأَطْلَقَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ إِجْمَاعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْخِلَافُ فِي غَيْرِ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ. انْتَهَى. وَأَمَّا أَطْفَالُ الْكُفَّارِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِيهِمْ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ فِي الْمَشِيئَةِ، وَنُقِلَ عَنِ الْحَمَّادِينَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ مَالِكٍ وَلَا نَصَّ عَنْهُ لَكِنْ صَرَّحَ أَصْحَابُهُ بِأَنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ وَأَطْفَالَ الْكُفَّارِ فِي الْمَشِيئَةِ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» . ثَانِيهَا: أَنَّهُمْ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ، حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنِ الْأَزَارِقَةِ وَالْخَوَارِجِ، وَلِأَحْمَدَ «عَنْ عَائِشَةَ: " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وِلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ فِي الْجَنَّةِ، وَعَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ فِي النَّارِ، فَقُلْتُ: لَمْ يُدْرِكُوا الْأَعْمَالَ، قَالَ: رَبُّكِ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ لَوْ شِئْتِ أَسْمَعْتُكِ تَضَاغِيَهُمْ فِي النَّارِ» ". وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ جِدًّا ; لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ أَبَا عَقِيلٍ مَوْلَى بُهَيَّةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ فِي بَرْزَخٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ إِذْ لَا حَسَنَاتٍ لَهُمْ يَدْخُلُونَ بِهَا الْجَنَّةَ وَلَا سَيِّئَاتٍ يَدْخُلُونَ بِهَا النَّارَ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015