الْعُلَمَاءُ مُخَالَفَتَهُمْ بِتَأْوِيلِ الْفِطْرَةِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَيْهِ مُوَافَقَةُ الْقَدَرِيَّةِ لِحَمْلِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وَلِذَا احْتَجَّ مَالِكٌ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ، انْتَهَى.

رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ يَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ مَالِكٌ: احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِآخِرِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَطَرَ الْعِبَادَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ لَا يُضِلُّ أَحَدًا فَإِنَّمَا يُضِلُّ الْكَافِرَ أَبَوَاهُ، فَأَشَارَ مَالِكٌ إِلَى رَدِّهِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى عِلْمِهِ بِمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ إِيجَادِهِمْ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْعِلْمِ الَّذِي يُنْكِرُهُ غُلَاتُهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَهْلُ الْقَدَرِ إِنْ أَثْبَتُوا الْعِلْمَ خُصِمُوا (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ) زَادَ ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَوْ يُمَجِّسَانِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ إِمَّا لِلتَّعْقِيبِ أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوْ جَزَاءُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ أَيْ إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَمَنْ تَغَيَّرَ كَانَ بِسَبَبِ أَبَوَيْهِ إِمَّا بِتَعْلِيمِهِمَا إِيَّاهُ أَوْ تَرْغِيبِهِمَا فِيهِ، أَوْ كَوْنِهِ تَبَعًا لَهُمَا فِي الدِّينِ يَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَهُ حَكَمُهُمَا، وَخُصَّ الْأَبَوَانِ بِالذِّكْرِ لِلْغَالِبِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ حَكَمَ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ الَّذِي يَمُوتُ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ أَحْمَدَ فَقَالَ: اسْتَقَرَّ عَمَلُ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِأَطْفَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَاسْتَشْكَلَ الْحَدِيثُ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يَقَعُ لَهُ التَّهَوُّدُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا ذُكِرَ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا يَبْقَى مُسْلِمًا لَا يَقَعُ لَهُ شَيْءٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ مِنْ ذَاتِ الْمَوْلُودِ وَمُقْتَضَى طَبْعِهِ بَلْ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبٍ خَارِجِيٍّ، فَإِنْ سَلِمَ مِنْهُ اسْتَمَرَّ عَلَى الْحَقِّ.

(كَمَا تُنَاتَجُ) بِفَوْقِيَّةٍ فَنُونٍ فَأَلِفٍ فَفَوْقِيَّةٍ فَجِيمٍ، أَيْ يُولَدُ (الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَالْمَدِّ، نَعْتٌ لِبَهِيمَةٍ، أَيْ لَمْ يَذْهَبْ مِنْ بَدَنِهَا شَيْءٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ أَعْضَائِهَا (هَلْ تُحِسُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ، أَيْ تُبْصِرُ، وَفِي رِوَايَةٍ: هَلْ تَرَى (فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ، أَيْ مَقْطُوعَةِ الْأَنْفِ أَوِ الْأُذُنِ وَالْأَطْرَافِ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ أَيْ بَهِيمَةٍ تَقُولُ فِيهَا هَذَا الْقَوْلَ، أَيْ كُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا قَالَهُ لِظُهُورِ سَلَامَتِهَا، زَادَ فِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا. قَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ الْمَوْلُودَ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ثُمَّ يُغَيِّرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَوَاهُ، كَمَا أَنَّ الْبَهِيمَةَ تُولَدُ تَامَّةً لَا جَدْعَ فِيهَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا تُجْدَعُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُغَيَّرُ خَلْقُهَا. وَقَالَ فِي الْمُفْهِمِ: يَعْنِي أَنَّ الْبَهِيمَةَ تَلِدُ الْوَلَدَ كَامِلَ الْخِلْقَةِ فَلَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ كَانَ بَرِيًّا مِنَ الْعَيْبِ لَكِنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِقَطْعِ أُذُنِهِ مَثَلًا، فَخَرَجَ عَنِ الْأَصْلِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ وَاقِعٌ وَوَجْهٌ وَاضِحٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَمَا حَالَ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يُهَوِّدَانِهِ، أَيْ يُهَوِّدَانِ الْمَوْلُودَ بَعْدَ خَلْقِهِ عَلَى الْفِطْرَةِ حَالَ كَوْنِهِ شَبِيهًا بِالْبَهِيمَةِ الَّتِي جُدِعَتْ بَعْدَ أَنْ خُلِقَتْ سَلِيمَةً، أَوْ صِفَةَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ يُغَيِّرَانِهِ مِثْلَ تَغْيِيرِهِمُ الْبَهِيمَةَ السَّلِيمَةَ، وَقَدْ تَنَازَعَتْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015