اللسان وأطرافه، وبين الثنايا، وفى الشفتين والخيشوم، فيسمع له عند كل مقطع من تلك المقاطع صوت غير صوت المقطع المجاور له فإذا هو حرف، فألهم سبحانه الإنسان بضم بعضها إلى بعض، فإذا هى كلمات قائمة بأنفسها، ثم ألهمهم تأليف تلك الكلمات بعضها إلى بعض فإذا هى كلام دال على أنواع المعانى أمرا ونهيا، وخبرا واستخبارا ونفيا وإثباتا، وإقرارا وإنكارا، وتصديقا وتكذيبا، وإيجابا واستحبابا، وسؤالا وجوابا إلى غير ذلك من أنواع الخطاب؛ نظمه ونثره وموجزه ومطوله على اختلاف لغات الخلائق، كل ذلك صنعته- تبارك وتعالى- فى هواء مجرد خارج من باطن الإنسان إلى ظاهره، فى مجار قد هيئت وأعدت لتقطيعه وتفصيله، ثم تأليفه

وتوصيله، فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين «1».

ومن تأمّل الإمام ابن القيم فى شأن الحرف المخلوق، وافتتاح السورة به، تدرك كيف تكون بدايات التنزيل تحريكا للعقول البشرية؛ لتفكر وتتأمل وتنظر وتتعلم، فالسورة الأولى بدئت بقوله تعالى: اقْرَأْ [العلق: 1]، ووجهت إلى التعليم، والسورة الثانية يذكر فى بدايتها مع صيغة قسم ما يذكر بالحروف وأداة الكتابة والتعلم.

ويأتى القسم الكريم، والذى يذكر بالحروف التى هى أوعية المعانى وأبنيتها، وبالقلم الذى هو أداة العلم وتسطيره، ليؤكد هذا القسم على أهمية العلم الذى ذكره فى السورة الأولى، وتأتى الآية الكريمة التالية؛ لتستنبط منها كيف أن الناس قد خاضوا فى شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلم، وأن بعضهم رماه بالجنون، وهذا يدل على أن حديث الوحى وما نزل من القرآن قد شاع بين الناس وانقسموا تجاهه بين مؤمن وكافر، وأن الكافرين قد سلكوا مسلك التحدى والعناد والمواجهة، ومن صور ذلك الخوض فى هذه الشخصية الكريمة التى صيغت على عين الله تبارك وتعالى وبفضله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (8) [الضحى]. فقالوا عنه:

«مجنون» فهل يعدون الخروج على باطلهم جنونا؟ وهل يعدون الذكر المنزل، والذى يحملهم ويشجعهم على الفكر والتعلم جنونا؟، وهل يعدون إنقاذه لهم من الضلال المبين الذى شمل عقائدهم وتصوراتهم وسلوكهم جنونا؟. إنّ الله يقسم ليسمعوا وليعلموا ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) [القلم].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015