التى يفتتح بها الرب سبحانه بعض السور، وهى أحادية وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية ولم تجاوز الخمسة، ولم تذكر قط فى أول سورة إلا وأعقبها بذكر القرآن؛ إما مقسما به وإما مخبرا عنه، ما خلا سورتين سورة «كهيعص»، و «ن».

كقوله تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة]، وقوله جل شأنه: الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمران]، وقوله تعالى: المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف]، وقوله تعالى: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ [الرعد: 1]، وهكذا ففي هذا تنبيه على شرف هذه الحروف، وعظم قدرها وجلالتها إذ هى مبانى كلامه وكتبه التى تكلم سبحانه بها، وأنزلها على رسله، وهدى بها عباده وعرفهم بواسطتها نفسه وأسماءه وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه ووعيده ووعده، وعرفهم بها الخير والشر، والحسن والقبيح، وأقدرهم على التكلم بها بحيث يبلغون بها أقصى ما فى أنفسهم بأسهل طريق وأقل كلفة ومشقة، وأوصله إلى المقصود وأدله عليه، وهذا من أعظم نعمه عليهم، كما هو من أعظم آياته، ولهذا عاب سبحانه على من عبد إلها لا يتكلم، وامتنّ على عباده بأن أقدرهم على البيان بها بالتكلم فكان فى ذكر هذه الحروف التنبيه على كمال ربوبيته، وكمال إحسانه وإنعامه، فهى أولى أن يقسم بها من الليل والنهار والشمس والقمر والسماء والنجوم وغيرها من المخلوقات، فهى دالة أظهر دلالة على وحدانيته وقدرته وحكمته وكماله وكلامه وصدق رسله.

وقد جمع سبحانه بين الأمرين- أعنى القرآن ونطق اللسان- وجعل تعليمها من تمام نعمته وامتنانه كما قال تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) [الرحمن] فبهذه الحروف علم القرآن، وبها علم البيان، وبها فضل الإنسان على سائر أنواع الحيوان، وبها أنزل كتبه، وبها أرسل رسله، وبها جمعت العلوم وحفظت، وبها انتظمت مصالح العباد فى المعاش والمعاد، وبها يتميز الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، وبها جمعت أشتات العلوم، وبها أمكن تنقلها فى الأذهان، وكم جلب بها من نعمة ودفع بها من نقمة، وأقيلت بها من عثرة، وأقيمت بها من حرمة، وهدى بها من ضلالة، وأقيم بها من حق وهدم بها من باطل، فآياته سبحانه فى تعليم البيان كآياته فى خلق الإنسان، ولولا عجائب صنع الله ما ثبتت تلك الفضائل فى لحم ولا عصب. فسبحان من هذا صنعه فى هواء يخرج من قصبة الرئة فينغم فى الحلقوم، وينغرس فى أقصى الحلق، ووسطه وآخره وأعلاه وأسفله، وعلى وسط

طور بواسطة نورين ميديا © 2015