ومثله ما حكي أن جعيفران الموسوس تقدم إلى يوسف الأعور القاضي بسر من رأى في حكومة، في شيء كان في يده من وقف له، فدفعه عنه وقضى عليه، فقال: أراني الله أيها القاضي عينيك سواء، فأمسك عنه وأمر برده إلى داره. فلما رجع أطعمه ووهب له دراهم، ثم دعا به فقال له: ما أردت بدعائك، أردت أن يرد اله علي من بصري ما ذهب؟ فقال له: لئن كنت وهبت لي هذه الدراهم لأسخر منك لأنت المجنون، لا أنا، اخبرني كم من أعور رأيته قد عمي؟ فقال: كثير، فقال: هل رأيت أعور قد صح قط؟ قال: لا، قال: فكيف توهمت علي الغلط؟ . فضحك منه وصرفه.

ومن شواهده أيضاً قول محمد بن حازم الباهلي في الحسن بن سهل حين تزوج المأمون بابنته بوران:

بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن.

يابن هارون قد ظفر ... ت ولكن ببنت من.

فلا يعلم مل أراد ببنت من، في الرفعة، أو في الحقارة؟ ولذلك لما نمي هذا الشعر إلى المأمون قال: والله ما ندري أخيرا أراد أم شرا.

وأكثر من ألف في البديع لم يعرف قائل هذين البيتين، ونسبوهما إلى بعض الشعراء، وقائلهما محمد بن حازم المذكور على ما في وفيات الأعيان للقاضي ابن خلكان، وبعض شروح المقامات.

وكان محمد بن حازم هذا شاعرا مطبوعا؛ من شعراء الدولة العباسية مولده ومنشأه البصرة، وسكن بغداد، وكان كثير الهجاء للناس. ساقط الهمة. مر به بعض الأمراء وهو جالس على باب داره، فلم يسلم عليه سلاما يرضيه وكان من باهله أيضاً.

فقال فيه:

وباهلي من بني وائل ... أدرك ما لا بعد افلاس.

قطب في وجهي خوف القرى ... تقطيب درغام لدى الباس.

وأظهر التيه فتايهته ... تيه امرءٍ لم يشق بالناس.

أعرته أعراض مستكبر ... في موكب مر بكناس.

ومن شعره يمدح الشباب ويذم الشيب. قال ابن الأعرابي: وهو أحسن ما قاله المحدثون في ذلك:

لاحين صبر فخّل الدمع ينهمل ... فقد الشباب بيوم المرء متصل.

سقيا ورعيا لأيام الشباب وإن ... لم يبق منك له رسم ولا طلل.

جر الزمان ذيولا في مفارقه ... وللزمان على إحسانه علل.

وربما جر أذيال الصبا مرحا ... وبين برديه غصن ناعم خضل.

يصبي الغواني ويزهاه بشرته ... شرخ الشباب وثوب حالك رجل.

لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها ... من الشباب بيوم واحد بدل.

كفاك بالشيب عيبا عند غانية ... وبالشباب شفيعا أيها الرجل.

بان الشباب وولى عنك باطله ... فليس يحسن منك اللهو والغزل.

أما الغواني فقد أعرضن عنك قلى ... وكان إعراضهن الدل والخجل.

أعرنك الهجر ما ناحت مطوقة ... فلا وصال ولا عهد ولا رسل.

ليت المنايا أصابتني بأسهمها ... فكن يبكين عهدي قبل أكتهل.

عهد الشباب لقد أبقيت لي حزنا ... ما جد ذكرك إلا جد لي ثكل.

إن المشيب إذ ما حل رائده ... في منهل جاء يقفو أثره الأجل.

وقال له القاضي يحيى بن أكثم: ما عيب شعرك غلا أنك لا تطيل. فقال:

أبلى لي أن أطيل الشعر قصدي ... إلى المعنى وعلمي بالصواب.

وإيجازي بمختصر قريب ... حذفت به الفضول من الجواب.

فأبعثهن أربعة وخمسا ... بألفاظ مثقفة عذاب.

خوالد ما حدا ليل نهارا ... وما حسن الصبا بأخي الشباب.

وهن إذا وسمت بهن قوما ... كأطواق الحمائم في الرقاب.

وهن إذا أقمت مسافرات ... تهاداها الرواة مع الركاب.

وكان يقول: لم يبق على شيء من اللذات إلا بيع السنانير من اللذة، قال: يعجبني أن تجيء العجوز الرعناء تخاصمني وتقول: هذا سنوري سرق مني، فأخاصمها وأشتمها وتشتمني، وأغيظها فأعضها، وأنشد:

صل خمرة بخمار ... وصل خمار بخمرة.

وخذ بحظك من ذا ... وذا إلى أين تدري.

فقال له: إلى أين ويحك؟ فقال: إلى النار يا أحمق.

وحدث عن نفسه، قال: عرضت لي حاجة في عسكر الحسن بن سهل، فأتيته وقد كنت قلت شعرا، فلما دخلت على محمد بن سعيد بن مسلم، فانتسبت له فعرفني، فقال لي: ما قلت في الأمير؟ قلت: ما قلت فيه شيئا بعد، فقال له رجل كان معي: بلى قال أبياتا.

فسألني أن أنشده فأنشدته قولي:

وقالوا لو مدحت فتى كريما ... فقلت وكيف لي بفتى كريم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015