قال أهل البيان: إذا أردت أن تبهم ثم توضح، فأنك تطنب، وفائدته غما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين، الإبهام والإيضاح، أو ليتمكن المعنى في النفس تمكنا زائدا، لما طبع الله النفوس عليه من ظان الشيء إذا ذكر مبهما ثم بين كان أوقع فيها من أن يبين أولا، أو لتكمل لذة العلم فإن الشيء إذا علم من وجه دون وجه تشوقت النفوس على العلم بالمجهول، فيحصل لها بسبب العلم لذة، وبسبب حرمانها من الباقي ألم، فإذا حصل العلم من بقية الوجوه حصلت بها لذة أخرى، واللذة عقيب الألم أقوى من اللذة التي لم يتقدمها ألم، كقوله تعالى (قال رب اشرح لي صدري) ، فإن قوله: اشرح لي، يفيد طلب شرح شيء لشيء ما له، وقوله: صدري، يفيد إيضاحه، وقد يكون لتفخيم الأمر وتعظيمه، كقوله تعالى (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) ففي إبهامه وإيضاحه تفخيم للأمر وتعظيم.

قال البديعيون: الإيضاح أن يذكر المتكلم في كلامه مفردا لا يفهم معناه لغرابته حتى يوضحه في بقية كلامه، أو جملة في ظاهرها لبس وخفاء لا يستقل الفهم بالمراد منها حتى يوضحها في آخر الكلام.

فالأول كقوله تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا. وقد سأل عبد بن طاهر أحم بن يحيى: ما الهلع؟ فما زاد على التلاوة. وسئل الأصمعي عن معنى الألمعي فأنشد: قول أوس بن حجر:

الألمعي الذي يظن بك الظ ... ن كأن قد رأى وقد سمعا.

وقال أبو العالية: القيوم: لا تأخذه سنة ولا نوم. وقال القرظي: الصمد: لم يلد ولم يولد. وهو في القرآن كثير.

والثاني كقوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون. فقوله: خلقه وما بعده، إيضاح للجملة الأولى. قال المفسرون: قوله: خلقه من تراب جملة مفسرة للتمثيل، مبينة لما له الشبه، وهو انه خلق بلا أب كما خلق آدم من التراب بلا أب وأم، شبه حاله بما هو أغرب إفحاما للخصم وقطعا لمواد التشبيه.

ومثاله من الشعر قول أبي الطيب:

وكم لظلال الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب.

وقال ردى الأعداء تسري إليهم ... وزارك فيه ذو الدلال المحجب.

قال أبو العلاء: المانوية منسوبة إلى ماني، وهو رجل يعظمه أهل مذهبه، ويقال: أن طائفة من الترك عظيمة يرون مذهبه، وإن أهل الصين على مذهبه، وإن لأصحابه كتبا ومناظرات، ويزعمون باثنين: رب يفعل الخير لا غير، وهو في بعض الألسنة الذي يسمى يزدان، وضده يفعل الشر ويسمونه أهرمن. ويذكر عنهم أنهم يقولون: الخير من النهار، والشر من الليل، وأنهما أصلان للعالم حيان حساسان دراكان، فرد عليهم أبو الطيب بالبيت الأول فقال:

كم نعمة لظلام الليل تكذب قولهم. ثم أوضح ذلك في البيثاني.

ومنه قول الآخر:

يذكر نيك الخير والشر كله ... وقيل الخنا والحلم والعلم والجهل.

فألقاك عن مكروهها متنزها ... وألقاك كن محبوبها ولك الفضل.

فإن البيت الأول معناه ملتبس لكونه يقتضي المدح والذم، فأوضحه في البيت الثاني بما أزال اللبس.

وقول أبي الحسن الباخرزي:

ألا لا سقى صوب العوارض قبره ... ففي قبره من فيض كفيه أبحر.

ولا غفر الرحمن ذنبا أتى به ... إذا لم يكن ذنب فمن أن يغفر

والفرق بين الإيضاح والتفسير إصطلاحي، وقد تقدم بيانه في نوع التفسير فليرجع إليه.

وبيت بديعية الصفي قوله:

قادوا الشوازب كالأجيال حاملة ... أمثالها ثبتة في كل مصطدم.

قال في شرحه: قوله: ثبتة في كل مصطدم، يوضح قوله أمثالها.

وبيت الموصلي قوله:

هذا وتزداد إيضاحا مخافتهم ... في كل معترك من بطش ربهم.

وبيت بديعية المقري قوله:

مثبت الجأش يحمي الجيش إذا فرقوا ... وباذل العفو إذ يردي لكل كمي.

وبيت بديعيتي قولي:

وضنهم زاد إيضاحا وبخلهم ... بعرضهم ونداهم فاض كالديم.

فقولي: بعرضهم إيضاح للضن والبخل الذي أضافه إليهم في صدر البيت والله أعلم.

التوهيم.

محققون لتوهيم العدى أبدا ... كأنهم يعشقون البيض في القمم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015