فالعيب صفة ذم منفية استثنى منها صفة مدح، وهي أن سيوفهم ذات فلول، أي لا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهذه الصفة، إن كان فلول السيف من قراع الكتائب عيبا. فأثبت شيئا من العيب على تقدير كون فلول السيوف منه، وهو محال، لأنه كناية عن كملل الشجاعة، فهو بالمعنى تعليق بالمحلل كقولهم: حتى يبيض القار، فتأكيد المدح ونفي الذم في هذا الضرب من جهتين، إحداهما: انه كدعوى الشيء بينية، لأنه علق نقيض المطلوب وهو إثبات شيء من العيب بالمحال محال، فعدم العيب ثابت، والثانية: الأصل في الاستثناء أن يكون متصلا، وهو دخول المستثنى في المستثنى منه، على تقدير السكوت على الاستثناء، ليكون ذكر المستثنى إخراجا له عن الحكم الثابت للمستثنى منه، وذلك لأن الاستثناء المنقطع مجاز على ما تقرر في محله. وإذا كان الأصل في الاستثناء أن يكون متصلا فذكر ما بعدها يوهم السامع أن ما يأتي بعدها مخرج مما قبلها، فيظن إن غرض المتكلم إخراج من أفراد ما نفاه من العيب، وإرادة أثباته، حتى يحصل فيهم شيء من العيب، فإذا أتت بعدها صفة مدح وتحول الاستثناء من الاتصال إلى الانقطاع تأكد المدح، لكونه مدحا على مدح، وللإشعار بأنه لم يجد فيهم صفة ذم حتى يثبتها، فاضطر إلى استثناء صفة مدح، مع ما فيه من نوع خلابة وتأخيذ للقلوب.

الضرب الثاني: أن يثبت لشيء صفة مدح، ويعقب بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى، كقوله عليه السلام: أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، أي غير أني من قريش، وهذا الضرب لا يفيد التأكيد إلا من الجهة الثانية من الجهتين المذكورتين في الضرب الأول، وهو أن الأصل في مطلق الاستثناء أن يكون متصلا، فذكر أداته قبل ذكر المستثنى يوهم إخراج شيء مما قبلها، من حيث أنه استثناء، فإذا ذكر بعد الأداة صفة مدح أخرى تأكد المدح، ولا يتأتى فيه التأكيد إلا من الجهة الأولى، وهي أنه كدعوى الشيء بينية، لأنها مبنية على التعليق بالمحال المبني على تقدير الاستثناء متصلا، ولهذا كان الضرب الأول أفضل.

ومن هذا الضرب قول النابغة الجعدي:

فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا.

وقول بديع الزمان الهمذاني:

هو البدر إلا انه البحر زاخرا ... سوى انه الضرغام لكنه الوبل.

والاستدارك في هذا البيت يجري مجرى الاستثناء.

ومما وقع في هذا النوع في التنزيل قوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا قيلا سلاما سلاما.) وهو يحتما أن يكون من الضرب الأول، بأن يقدر السلام داخلا في اللغو والتأثيم فيفيد التأكيد من جهتين، وأن يكون من الضرب الثاني بأن لا يقدر ذلك ويجعل الاستثناء من أصله منقطعا. وأصحاب البديعيات بنوا أبياتهم على الضرب الأول لكونه أفضل عما علمت.

وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:

لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... يسلوا عن الأهل والأوطان والحشم.

وبيت بديعية ابن جابر قوله:

لا عيب فيهم سوى أن لا يرى لهم ... ضيف بجوع ولاجار بمهتضم.

وبيت بديعية الموصلي قوله:

في معرض الذم أن قيل المديح فهم ... لا عيب فيهم سوى الإعدام للنقم.

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

في معرض الذم إن رمت المديح فهم ... لا عيب فيهم سوى إكرام وفدهم.

وبيت بديعية المقري قوله:

لا عيب فيه سوى أن العصاة به ... يلقون عفو كبير الإثم واللمم.

وبيت بديعيتي قولي:

إن شئت في معرض الذم المديح فقل ... لا عيب فيهم سوى إكثار نيلهم.

ولم ينظم الطبري هذا النوع في بديعيته، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الإيضاح

وضنهم زاد إيضاحا وبخلهم ... بعرضهم ونداهم فاض كالديم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015