لأن كل واحد منهما وإن راعى التفصيل في التشبيه فانه اقتصر على أن أراك لمعان السيوف في أثناء العجاجة, بخلاف بشار, فانه لم يقتصر على ذلك بل عبر عن هيئة السيوف وقد سلت من أغمادها وهي تعلو وترسب وتجئ وتذهب, وهذه الزيادة زادت التفصيل تفصيلا, لأنها لا تقع في النفس إلا بالنظر إلى أكثر من جهة واحدة, وذلك أن للسيوف في حال احتدام الحرب, واختلاف الأيدي فيها للضرب اضطرابا شديدا, وحركات سريعة ثم لتلك الحركات جهات مختلفة وأحوال تنقسم بين الاعوجاج والاستقامة والارتفاع والانخفاض, ثم هي باختلاف هذه الأمور تتلاقى وتتداخل ويصدم بعضها بعضا, ثم أشكالها مستطيلة, فنبه على هذه الدقائق بكلمة واحدة هي قوله (تهاوى) فإن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركاتها, وكان لها في تهاويها تدافع وتداخل, ثم إنها بالتهاوي تستطيل أشكالها.

وأبلغ التشبيه ما كان من هذا النوع لغرابته, ولان نيل الشيء بعد طلبه والاشتياق إليه ألذ, وموقعه من النفس ألطف, وبالمسرة أولى, ولهذا ضرب المثل لكل ما لطف ببرد الماء على الظماء.

كما قال:

وهن ينبذن من قول يصير به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي

لا يقال عدم الظهور ضرب من التعقيد, والتعقيد مذموم, لانا نقول التعقيد له سببان: سوء ترتيب الألفاظ, واختلال الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو المراد باللفظ, وهذا هو المذموم المردود. والمراد بعدم الظهور في التشبيه ما كان سببه لطف المعنى, ودقته, أو ترتيب بعض المعاني على بعض, كما يشعر بذلك قولنا في بدء الفكر, فإن المعاني الشريفة قلما تنفك عن بناء ثان على أول, ورد تال إلى سابق. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم (إن من الشعر لحكمة, وإن من البيان لسحرا) فمن الذي بأول وهلة ينفذ السحر, ويهجم على حكمة الشعر؟ ثم هل شيء أحلى من الفكر إذا صار فيه نهجا قويما وطريقا مستقيما يوصل إلى المطلوب ويظفر بالمقصود؟.

الرابع: من وجود الحسن, أن يكون المشبه به معقولا, والمشبه محسوسا, لما تقدم من أن وجهه أن يقدر المعقول محسوسا, ويجعل كالأصل في ذلك المحسوس على طريقة المبالغة, وذلك لا يخلو من غرابة وبعد تناول.

وما أحسن قول أبي نواس في هذا النوع:

وندمان سقيت الراح صرفا ... وسر الليل منسدل السجوف

صفت وصفت زجاجتها عليها ... كمعنى دق في ذهن لطيف

ولمؤلفه عفا الله عنه من أبيات:

رقت فلولا الكأس لم تبصر لها ... جسما ولم تلمس براحة لامس

فكأنها عند المزاج لطافة ... وهم يخيله توهم هاجس

وقال الآخر:

كأن القلب والسلوان ذهن ... يلوح عليه معنى مستحيل

وقال جحظة البرمكي:

ورق الجو حتى قيل هذا ... عتاب بين جحظة والزمان

وإلى هذا البيت أشار من قال: بيننا عتاب لحظة, كعتاب جحظة.

وقال ابن الهبارية:

كم ليلة بت مطويا على شجن ... أشكوا إلى النجم حتى كاد يشكوني

والصبح قد مطل الشرق العيون به ... كأنه حاجة في نفس مسكين

وقال أبو القاسم أسعد بن إبراهيم:

تنفس الصهباء في لهواته ... كتنفس الريحان في الآصال

كأنما الخيلان في وجناته ... ساعات هجر في زمان وصال

وهو من قول الآخر:

أسفر ضوء الصبح في وجهه ... فقام خال الخد فيه بلال

كأنما الخال على خده ... ساعة هجر في زمان الوصال

والأصل في هذا المعنى قول المعتمد بن عباد:

أكثرت هجرك غير أنك ربما ... عطفتك أحيانا علي أمور

فكأنما زمن التهاجر بيننا ... ليل وساعات الوصال بدور

وقال ابن طباطبا:

كأن انتصار البدر من تحت غيمة ... نجاة من البأساء بعد وقوع

وزعم بعضهم ان هذا أعلى مراتب التشبيه طبقة, لأنه يفتقر إلى لطف ذوق, وسلامة فطرة, وصحة تخيل, فهو صعب على من يرومه, متقاعس عمن جذب إليه زمامه.

الخامس: أن يكون مستحلى عند الذوق, تهش النفس عند سماعه, ويميل الطبع إليه.

كقول القائل في الورد:

كأنه وجنة الحبيب وقد ... نقطه عاشق بدينار

وقول ابن المعتز:

على عقار صفراء تحسبها ... شيبت بمسك في الدن مفتوت

للماء فيها كتابة عجب ... كمثل نقش في فص ياقوت

وقوله في الهلال:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015