قد كان لي فيما مضى خاتم ... واليوم لو شئت تمنطقت به

وذبت من شوق فلو زج بي ... في مقلة النائم لم ينتبه

وقول المظفر بن كيغلغ:

عبدك أمرضته فعده ... أتلفه إن لم تكن ترده

ذاب فلو فتشت عليه ... كفك في الفرش لم تجده

وقول ابن دانيال:

محب غدا جسمه ناحلا ... يكاد لفرط الضنى أن يذوبا

ورق فلو حركته الصبا ... لصار نسيما وعادت قضيبا

وقول بعضهم:

ولو شئت في طي الكتاب لزرتكم ... ولم تدر عني أحرف وسطور

وقول الوزير ابن العميد:

لو أن ما أبقيت من جسمي قذى ... في العين لم يمنع من الإغفاء

ومن هنا أخذ الشيخ جعفر الخطي من شعراء هذا القرن فقال:

لقد تضائل حتى لو قذفت به ... في مقلة ما أحسته مآقيها

وأكثر من ذلك غلوا قول أبي عثمان الخالدي:

بنفسي حبيب بأن صبري ببينه ... وأودعني الأحزان ليلا ودعا

وأنحلني بالهجر حتى لو أنني ... قذى بين جفني أرمد ما توجعا

وتجاوز المتنبي أبعد من ذلك فقال:

أراك ظننت السلك جسمي فعقته ... عليك بدر عن لقاء الترائب

ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب

ومنه قول الشيخ جعفر الخطي رحمه الله:

وعبرة لو دعي نوح ليسلكها ... بفلكه قال بسم الله مجريها

ومقلة ألفت فرط السهاد فلو ... رد الرقاد عليها كاد يؤذيها

وقولي من أبيات خمرية:

رقت فلولا الكأس لم تبصر لها ... جسما ولم تلمس براحة لامس

فكأنها عند المزاج لطافة ... وهمٌ يخيله توهم هاجس

وقول الشريف الرضي رضي الله عنه:

لو أن قومك نصلوا أرماحهم ... بعيون سربك ما أبل طعين

ومن أحسن أنواع الغلو أيضاً ما تضمن نوعا حسنا من التخييل, وإن لم يأت فيه بأداة التقريب, ومثل له الخطيب في الإيضاح والتلخيص بقول أبي الطيب:

عقدت سنابكها عليها عثيرا ... لو تبتغي عنقا عليه لا مكنا

وتبعه على ذلك ابن حجة فقال: ومن الغلو المقبول بغير أداة التقريب قول أبي الطيب - وأنشد البيت - وأعترض ذلك بعض المتأخرين فقال: قد عدوا من أدوات التقريب (لو) وصرح بذلك ابن حجة في الإغراق فقال: ولم يقع شيء من الإغراق والغلو في الكتاب العزيز, ولا في الكلام الفصيح إلا مقرونا بما يخرجه من باب الاستحالة, ويدخله في باب الإمكان مثل (كاد) و (لو) وما يجري مجرهما, ثم قال: ومن شواهد تقريب نوع الإغراق (بلو) قول زهير:

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم لأولهم أو مجدهم قعدوا

قال (لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا) وهو محل الشاهد, فإن صدره لا غلو فيه البتة, فكيف يقال أنه من الغلو بغير أداة التقريب؟.

وقد جمع القاضي الأرجاني بين حسن التخييل وأداة التقريب في قوله:

يخيل لي أن سمر الشهب في الدجى ... وشدت بأهدابي إليهن أجفاني

فقوله (يخيل) هي أداة التقريب, فإنه جعل المدعى توهما لا حقيقة وأما حسن التخييل فهو ما أدعاه من أنه لطول ليلة وشدة سهره يوقع في خياله أن الشهب محكمة بالمسامير لا تزول عن مكانها. وشدت أجفانه إليها بأهدابه لعدم انطباقها والتقائها, فجعل الأهداب بمنزلة الحبال. ولا خفاء بما في هذا التخييل من الحسن.

وإلى هذا المعنى لمح ابن نباتة في قوله - وإن لم يستوفه -:

كم ليلة بت أشكو من تطاولها ... علي والليل داجي القلب كافره

وأرقب الشهب فيه وهي ثابتة ... كأنما سمرت منها مسامره

ومن الغلو المقبول, ما أخرج مخرج الهزل والخلاعة كقول أبي الشكر محمود بن سليمان بن سعيد الموصلي المعروف بابن المحتسب من قصيدة:

أمر بالكرم خلف حائطه ... تأخذني نشوة من الطرب

أسكر بالأمس إن عزمت على الشرب غدا إن ذا من العجب

فإن السكر في الأمس للعزم على الشرب في الغد محال, لكنه مقبول لإخراجه مخرج الهزل والخلاعة, وذلك مما تميل إليه الطباع.

وقول ابن الحجة أنه من الغلو الذي هو غير مقبول, فقد نص على ما ذكرناه الخطيب في كتابه, وغيره من المحققين, فلا عبرة بقوله.

ومنه قول أبي الحسن أحمد بن المؤمل:

وقائلة ما بالك بالدهر طافحا ... وأنت مسن لا يليق به السكر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015