انتهى. قال العلامة الطيبي في التبيان: ومما يواخي هذه القصة (يعني قصة المتنبي مع سيف الدولة) انتقاد الإمام فخر الدين الرازي على أبي العلاء المعري قوله:

أعن وخد القلاص كشفت حالا ... ومن عند الظلام طلبت مالا

قال: كان المناسب أن يضم الكشف مع الظلام, والطلب مع الوخد, فيقال غرضه الإنكار على نفسه بإدمان السفر, وآداب السير, والتأكيد فيه, ولأن قوله:

ودرا خلت أنجمه عليه ... فهلا خلتهن به ذبالا

لا يلتئم إلا على التأليف المذكور تنبيه - الحق بهذا النوع ما أن يشتمل الكلام على لفظ يمكن حمله على معنيين كل منهما صحيح فيختار الأولى منهما كقول بعضهم:

لما اعتنقنا للوداع وأعربت ... عبراتنا عنا بدمع ناطق

فرقن بين معاجر ومحاجر ... وجمعن بين بنفسج وشقائق

يحتمل أن المراد بالبنفسج والشقائق عارض الرجل وخد المرأة الملتقيان عند التعانق للوداع, ويحتمل أنه أراد أنها حين قامت للوداع مزقت خمارها, ولطمت وجهها حتى اخضرت من اللطم, أي جمعت بين أثر اللطم وهو شبيه بالبنفسج, وبين لون الخد وهو شبيه بالشقائق, لكن الثاني وهو حمل البنفسج على أثر اللطم أولى, لأن العارض إنما يشبه بالبنفسج عند طريان الخضرة, وليس في الشعر ما يدل على شباب المودع. قيل: وللكلام في ترجيح الأول مجال.

وقد نص علماء البلاغة أن كلام البليغ إذا احتمل معنيين متفاوتين في البلاغة والعذوبة تعين أن يحمل على الأبلغ الأعذب, ليطابق المعنى كلام المهذب والله وأعلم.

وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:

من مفرد بغرار السيف منتثر ... ومزوج بسنان الرمح منتظم

تحامل ابن حجة على جاري عادته على الشيخ صفي الدين في هذا البيت فقال: أنه غير صالح للتجريد, وعدم صلاحيته للتجريد هو الذي عقده وحجب إيضاح معناه عن مواقع الذوق فأعلم. انتهى.

وأنا أقول: إن أراد بمواقع الذوق ذوقه فنعم, وإلا فلا يخفى على من له أدنى ذوق مناسبة المفرد للمنتثر, والموج للمنتظم, وجعل الأول بغرار السيف, لأن الغالب أن السيف لا يضرب به إلا واحدا عند المبارزة, وجعل الثاني بسنان الرمح, لأن البطل كثيرا ما ينظم برمحه فارسين في طعنة واحدة, كما يحكى أن أبا دلف لحق قوما من الأكراد قطعوا الطريق, فطعن فارسا نفذت الطعنة إلى فارس آخر أمامه فقتلهما.

فقال بكر بن النطاح:

قالوا وينظم فارسين بطعنة ... يوم الهياج ولا تراه كليلا

لا تعجبوا فلو أن طول قناته ... ميل إذا نظم الفوارس ميلا

ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعته.

وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:

ذو معنيين بصحب والعدى ائتلفا ... للخلف ما أشهب البازي كالرخم

قال ابن حجة: إن هذين المعنيين لشدة العقادة أتعبت الفكر على أن يتضح لي منهما معنى فعجزت عن ذلك. وهو في محله.

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

سهل شديد له بالمعنيين بدا ... تألف في العطا والدين للعظم

قال في شرحه: سهولة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرنتها بالعطاء وشدته قرنتها بالدين لعظمته. انتهى.

ولا يخفي عدم انسجام هذا البيت.

والشيخ عبد القادر الطبري مسخ بيت أبي حجة فقال:

بر رؤوف غدا بالمعنيين له ... تألف بالعطا والحلم ذو نعم

وبيت بديعيتي هو قولي:

معظم بائتلاف المعنيين له ... من عفو مقتدر أو عز منتقم

فقرنت العفو بالقدرة, مع إمكان مقارنته بالانتقام, كأن يقال (من عز مقتدر أو عفو منتقم) لما بين العفو والقدرة من المناسبة والملائمة, فإن العفو إنما يكون مع القدرة, ولذلك قيل: إن أحسن ما قيل في حده ما قاله بعض العلماء وقد سئل ما العفو؟ فقال: هو ترك المكافأة عند المقدرة قولا وفعلا. وكان كسرى يقول: عفوي عمن أساء إلي بعد قدرتي عليه أسر لي مما ملكت.

وقال الشاعر:

فدهره يفصح عن قدرة ... ويغفر الذنب على علمه

كأنه يأنف من أن يرى ... ذنب امرئ أعظم من حلمه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015