فإن عجز كل من البيتين يلائم كلا من الصدرين, ولكنه أختار ذلك الترتيب لأمرين, أحدهما أن قوله (كأنك في جفن الردى وهو نائم) مسوق لتمثيل السلامة في مقام العطب, فجعله مقررا للوقوف والبقاء في موضع يقطع على صاحبه بالهلاك, أنسب من جعله مقررا لثباته في حال مرور الأبطال به مهزومة. وثانيهما أن في تأخير قوله (ووجهك وضاح وثغرك باسم) تتميما للوصف, وتفريعاً على الأصل, اللذين يفوتان بالتقديم. فالوصف هو ثباته في الحرب, والتتميم هو أن ثباته في الحرب لاحتقاره كل خطب عظيم كما يفيده وضاحة الوجه, وتبسم الثغر في ذلك الموقف, لا لضرورة فقدان المهرب. والتفريع على الأصل هو أن وضاحة وجهه وابتسام ثغره عند مرور الأبطال مكلومين مهزومين فرع ثباته في الحرب, حين لاشك لواقف في الموت, والردى محيط به من جميع الجوانب ثم أنه يسلم منه.

ونظيره في الكتاب العزيز قوله تعالى (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) فإن لم يراع فيه مناسبة الري للشبع, والاستظلال للبس, بل روعيت المناسبة بين اللبس والشبع في عدم الاستغناء عنهما وأنهما من أصول النعمة, وبين الاستظلال والري في كونهما تابعين لهما, ومكحلين لمنافعهما, وهذا أدخل في الامتنان, لما في تقديم أصول النعم وارداف التوابع من الاستيعاب.

حكى الثعالبي في يتيمة الدهر قال: استنشد سيف الدولة أبا الطيب المتنبي يوما قصيدته التي أولها:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم

وكان معجباً بها, كثير الاستعادة لها, فاندفع أبو الطيب ينشدها, فلما بلغ قوله فيها (وقفت وما في الموت شك لواقف) - البيتين - قال له سيف الدولة: لقد انتقدنا عليك هذين البيتين كما انتقد على امرئ القيس بيتاه وهما:

كأني لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال

ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

وبيتاك لا يلتئم شطراهما كما لا يلتئم شطرا هذين البيتين. كان ينبغي لامرئ القيس أن يقول:

كأني لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال

ولم أسبأ الرزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ولك أن تقول:

وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم

فقال: أيد الله مولانا, إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا كان أعلم بالشعر منه, فقد أخطأ امرئ القيس, وأخطأت أنا. ومولانا يعلم أن الثوب لا يعلمه البزاز معرفة الحائك, لأن البزاز يعرف جملته وتفاريقه, لأنه هو الذي أخرجه من الغزلية إلى الثوبية, وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد, وقرن السماحة في شرب الخمر للاتصاف بالشجاعة في منازلة الأعداء. وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى وهو الموت ليجانسه, ولما كان وجه الجريح المهزوم لا يخلو من أن يكون عبوسا, وعينه من أن تكون باكية قلت (ووجهك وضاح وثغرك باسم) لأجمع بين الأضداد في المعنى وأن لم يتسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله, وأجازه بخمسين دينارا من دنانير الصلات وفيها خمسمائة دينا. انتهى بنصه.

قال أبو الفتح عثمان بن جني بعد حكاية انتقاد سيف الدولة بيتي أبي الطيب بما ذكرنا: ليس الملك والشجاعة في شيء من صناعة الشعر, ولا يمكن أن يكون في ملائمة بين الصدر والعجز أحسن من بيتي المتنبي, لأن قوله (كأنك جفن الردى وهو نائم) هو في معنى قوله (وقفت وما في الموت شك لواقف) فلا معدل لهذا العجز عن هذا الصدر, لأن النائم إذا أطبق جفنه أحاط بما تحته, فكأن الموت قد أظله من كل مكان كما يحدق بالجفن بما يتضمنه من جميع الجهات, وجعله نائما لسلامته من الهلاك, لأنه لم يبصره وغفل عنه بالنوم فسلم ولم يهلك.

وقوله:

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم

هو النهاية في البشاشة. يقول: المكان الذي تكلم فيه الأبطال فتكلح وتعبس ثم وجهك وضاح لاحتقارك الأمر العظيم, ومعرفتك به, ألا تراه يقول بعده:

تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى ... إلى قول قوم أنت بالغيب عالم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015