وهذا الكميت يقول:

ولما رأيت الدهرَ يقلِبُ ظهره ... على بطنه فعل الممعّك بالرّمل

وشاتم الدهر العبقي يقول:

ولما رأيتُ الدهر وعْراً سبيلُه ... وأبدى لنا ظهراً أجبّ مسمّعا

ومعرفة حصاء غير مفاضة ... عليه ولوناً ذا عثانين أجْدَعا

وجبهة قرد كالشِّراك ضئيلة ... وصعّر خديه وأنفاً مجدَّعا

فهؤلاء قد جعلوا الدهرَ شخصاً متكاملَ الأعضاء، تامّ الجوارح؛ فكيف أنكرت على أبي الطيب أن جعلَ له فؤاداً! فلم يحِرْ جواباً غير أن قال: أنا استَبَرْت ووجدت بين استعارة ابن أحْمر للريح لُبّاً، واستعارة أبي الطيب للطيب قلباً بوْناً بعيداً، وأصبت بين استعمال ساعد للدهر في بيت ابن رميلة، واستعمال فؤاد للزمان في بيتِ أبي الطيب فصلاً جليّاً، وربما قصر اللسان عن مُجاراة الخاطر، ولم يبلغ الكلام مبلغ الهاجس.

حدّثني جماعةٌ من أهل العلم عن أبي طاهر الحازمي وغيره من شيوخ المصريين عن يونس بن عبد الأعلى قال: سألت الشافعي رضي الله عنه عن مسألة فقال: إني لأجد بيانَها في قلبي، ولكن ليس ينطلقُ به لساني.

وما أقربَ ما قالَه من الصواب وأخلقه بالسداد! وقد أجِد لهذا الفصل الذي تخيّل له بعضَ البيان؛ وذلك أنّ الريحَ لما خرجت بعُصوفها من الاستقامة، وزالت عن الترتيب شُبِّهت بالأهوج لا مُسكَة في عَقله، ولا زَبر للُبّه؛ ولما كان مدار الأهوج على التباس العقل حسُن من هذا الوجه أن يجعل للريح عقلاً، فأما الدهرُ فإنما يرادُ بذكره أهلُه؛ فإذا جعل للدهر ساعداً وعضُداً ومنكِباً فقد أقيم أهلُه مقام

طور بواسطة نورين ميديا © 2015