الإفراط في الاستعارة

وقد كانت الشعراء تجري على نهْج منها قريب من الاقتصاد، حتى استرسل فيه أبو تمام ومال الى الرّخصة، فأخرجه الى التعدي، وتبعه أكثر المدَثين بعده، فوقفوا عند مراتبهم من الإحسان والإساءة، والتقصير والإصابة. وأكثرُ هذا الصنف من الباب الذي قدمت لك القول فيه، وأقمت لك الشواهد عليه، وأعلمتك أنه يميَّز بقبول النفس ونفورها، وينتقد بسكون القلب ونبوّه. وربما تمكنت الحجج من إظهار بعضه، واهتدتْ الى الكشْف عن صوابه أو غلطه، وقد كان بعض أصحابنا يجاريني أبياتاً أبعد أبو الطيب فيها الاستعارة، وخرج عن حد الاستعمال والعادة؛ فكان مما عدد منها قوله:

مسرّةٌ في قُلوب الطّيبِ مفرِقُها ... وحسرةٌ في قلوبِ البَيض واليلَبِ

وقوله:

تجمعتْ في فؤادِه همَمٌ ... ملء فؤاد الزمان إحداها

فقال: جعل للطيب والبيض واليلَب قلوباً وللزمان فؤاداً. وهذه استعارة لم تجر على شبه قريب ولا بعيد؛ وإنما تصح الاستعارة وتحسن على وجه من المناسبة، وطرف من الشبه والمقاربة. فقلت له هذا ابن أحمر يقول:

ولهت عليه كل مُعصفة ... هوجاء ليس للبّها زبْر

فما الفصل بين من جعل للريح لُبّاً، ومن جعل للطيب والبيض قلباً! وهذا أبو رميلة يقول:

هم ساعدُ الدهر الذي يتقي به ... وما خير كف لا تنوء بساعدِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015