ما أحسن ما قال شيخ الاسلام في تعظيم الامر والنهي: هو أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعرضا لتشديد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد.

ومعنى كلامه أن أول مراتب تعظيم الحق عز وجل تعظيم أمره ونهيه، وذلك المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى كافة الناس ومقتضاها الانقياد لامره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه، وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالاً على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالايمان والتصدق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الاكبر.

فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق، وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم، وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المناهي.

فهذا ليس فعله وتركه صادراً عن تعظيم الأمر والنهي ولا تعظيم الآمر والناهي، فعلامة التعظيم لللأوامر رعاية أوقاتها وحدودها والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحينها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها، كمن يحزن على فوت الجماعة ويعلم أنه تقبلت منه صلاته منفرداً فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفاً.

ولو أن رجلاً يعاني البيع والشراء تفوته صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقة قيمتها سبعة وعشرون ديناراً لأكل يديه ندماً وأسفاً، فكيف وكل ضعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف وألف ألف وما شاء الله تعالى.

فإذا فوت العبد عليه هذا الربح قطعاً ـ وكثير من العلماء لا صلاة له ـ وهو بارد القلب فارغ من هذه المصيبة غير مرتاع لها، فهذا عدم تعظيم أمر الله تعالى في قلبه، وكذلك إذا فاته أول وقت الذي هو رضوان الله تعالى، أو فاته الصف الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه، ولو يعلم العبد فضيلته لجالد عليه ولكانت قرعة.

وكذلك فوت الجمع الكثير الذي تضاعف الصلاة بكثرته وقلته.

كلما كثر الجمع كان أحب إلى الله عز وجل، وكلما بعدت الخطا كانت خطوة تحط خطيئة، وأخرى ترفع درجة.

وكذلك فوت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى الذي هو روحها ولبها، فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبداً ميتاً أو جارية ميتة؟ فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو من أمير أو غيره؟ فهكذا سواء الصلاة الخيالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد ـ أو الأمة ـ الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، ولا يثبه عليها، فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها كما في السنن ومسند الإمام أحمد وغيره عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه قال «إن العبد ليصلي الصلاة وما كتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها حتى بلغ عشرها» .

وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها.

وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر السيئات تكفيراً كاملاً، والناقص بحسبه.

وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة وهما.

تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه.

وبهذا يزول الاشكال الذي يورده من نقص حظه من هذا الباب على الحديث الذي فيه «أن صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ويوم عاشوراء يكفر سنة» قالوا: فإذا كان دأبه دائماً انه يصوم يوم عرفة فصامه وصام يوم عاشوراء، فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كل سنة، وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فضل عن التكفير ينال به الدرجات.

ويالله العجب، فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض، والتكفير بهذه مشروط بشروط، موقوف على انتفاء الموانع كلها فحينئذ يقع التكفير، وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه، ولم يوف حقه، ولم يقدره حق قدره، فأي شيء يكفر هذا؟ فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهراً وباطناً، ولم يعرض له مانع يمنع تفكيره ولا مبطل يحبطه ـ من عجب أو رؤية نفسه فيه أو يمن به أو يطلب من العباد تعظيمه به أويستشرف بقلبه لمن يعظمه عليه أو يعادي من لا يعظمه عليه ويرى أنه قد بخسه حقه وأنه قد استهان بحرمته ـ فهذا أي شيء يكفر؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015