ومن الفرائض الدينية "الحج" ويراد به اصطلاحاً قصد مكة للنسك لكنّ اللفظة في الأصل يراد به مطلق النسك. وهي مشتقة من العبرانيّة وتكرّرت في الأسفار المقدسة بمعنى العيد والاحتشاد. وقد استعملها المقريزيّ في الخطط لليهود. قال في ذكر أعيادهم في أيار: "وفيه عيد الموقف وهو حجُ الأسابيع ... ويقال لهذا العيد في زماننا عيد العنصرة ". وكذلك استعملها الكتبة المسلمون لغير قصد مكّة قال الإدريسي في وصف المغرب أنّ المصامدة جعله"حجاً يقصدون إليه من جميع بلادهم". ومثلهم نصارى العرب فإنّهم استعاروا اللفظة من السريانيّة وهي عندهم كثيرة الاستعمال للدلالة على كلّ الحفلات الدينيّة فإتخذوها بهذا المعنىوبمعنى زيارة الأمكنة المقدّسة. فقد وردت في ذكرهم للكعبة اليمنيّة أي كنيسة نجران وفي زيارة بيت المقدس وقد استعملها ابن القلانسيّ في كتابه ذيل تاريخ دمشق لزيلرة بيعة القيامة: "هذه بيعة ... تعظمها النصارى أفضل تعظيم وتحجّ إليها عند فصحهم". وقال ياقوت عن دير نجران أن "بنيعبد المدان بنوه مربّعاً ... فكانوا يحجونه وهم طوائف من العرب ممّن يحلّ الأشهر الحرم ولا يحجّ الكعبة. ويحجُّه خثعم قاطبةً..".

4 الوحي وكتبه وأئمّته

ليس الدين طبيعياً فقط يدرك حقائقه العقل البشري ويقرّرها بالأدلّة العقليّة.

لكنّه وضعيّ أيضاً وهو الذي أوحى به الله إلى عباده وأرشدهم إليه على يد بعض أصفيائه المعروفين بالأنبياء كموسى كليمه تعالى ولا سيّما السيّد المسيح كلمة الله فطوراً أوحى بمناسك وفرائض معلومة كالختّان والذبائح وطوراً أنبأ بأسرار تفوق إدراك البشر كأسرار العالم الآخر وبعض الحقائق الإلهيّة. ولا يخفى أنّ العرب في الجاهليّة لم يعرفوا وحياً ولم يدينوا بدين وضعيّ بل أفسدوا الدين الطبيعيّ ولحقوا بالشرك وعبادة الأصنام كما تدلّ عليه الآثار المتعددة المكتشفة في عهدنا.

على أنّ جهلهم بالوحي إنّما سبق عهد المسيح وقد بيّنا في القسم الأول من مقالاتنا نفوذ النصرانيّة بين العرب. ولنا في لغتهم العربيّة قبل الإسلام ما يثبت هذا القول وذلك في استعمالهم للألفاظ الدالّة على الوحي وكتبه وأئمته كما سترى.

"الوحي" هي أول لفظة تدّل على قولنا. فإنّها وردت في الشعر الجاهليّ قبل القرآن بمعنى تبليغ الله كلمته إلى أنبيائه. قال ورقة بن نوفل الراهب النصرانيّ:

وجبريلُ يأتيهِ وميكالُ معهما ... من الله وحيُ يشرح الصدرَ منزلُ

فبقوله "الوحي المنزل" بيّن كونه يريد ديناً وضعيّاً بلّغ به الله أنبياءه. ومثله قول أميّة بن أبي الصلت في الملائكة وإصاختهم لوحي الله:

وسبطٌ صفوفٌ ينظرون قضاءهُ ... يصيخون بالأسماع للوحي رُكَّدُ

أمين لوحي القدسِ جبريلُ فيهمِ ... وميكالُ ذو الروح القويّ المسدّدُ

وقد انتقلوا من معنى اللفظة الأصليّ إلى معناها المجازيّ فجعلوا الأسفار الإلهيّة وحيّاً والمكتوب فيها وحيّاً قال جرير بهذا المعنى:

لمن الديارُ بعاقلٍ فالأنعمِ ... كالوحي في ورق الزبّور المعجم

وإذا كانوا يحفرون بعض آيات الوحي في الصخور أشاروا إلى ذلك في أشعارهم.

قال زهير يشبه آثار الدار بكتابة الوحي: "لمن طللٌ كالوحي عافٍ منازلهْ" وعلى مثله قال حسّان بن ثابت:

عرفتُ ديار زينبَ بالكُثيبِ ... كخطّ الوحي في الورق القشيبِ

وقد جاءت على لفظ الجمع في معلّقة لبيد قال يشبّه مسايل جبل ريّلن ببقاء كتابة الوحي في الحجارة:

فمدافعُ الريّانِ عرّيَ رسمها ... خلقاً كما ضمنَ الوحيَّ سلامها

وقد دعوا كتب الوحي بألفاظ أخرى يدلّ على احتوائها لكلام الله. فمنها "السفر" وأصلها من العبرانيّة "كلمة سريانية" والسريانيّة "كلمة سريانية" ومعناها الكتاب وقد خصّوا بها الكتب الإلهيّة. قال ابن دريد في الاشتقاق: "السفر الكتاب من التوراة والإنجيل وما أشبههما". وقد وردت في القرآن في سورة الجمعة وفي الحديث بالمعنى ذاته. وروى البكري في معجم ما استعجم دخول الحسين بن ضحّاك إلى أحد أديرة النصارى بينما كان الراهب يقرأ "سفراً من أسفارهم" أي كتبهم المقدّسة وكانوا يدعون كلاً من تلك الأسفار "بكتاب الله".

قال عديّ بن زيد:

ناشدتنا بكتاب الله حرمتنا ... ولم تكن بكتاب الله ترتفعُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015