المساكين (صفحة 55)

وهي الحرب العامة كأنها ثورة الدهر وقد ضجر من هذا العلم وطغيانه، ومل من سماجة إنسانه، واشتاق إلى عصر حيوانه، فزفر زفرة أيقظت الموت وكان نائما، وتركت هذا الإنسان من الفزع لجبنه أو قاعدا أو قائما، واستنزلت من القضاء ما كان في علم الله غيبا، واشتعل من هولها رأس الأرض ببياض السيوف شيبا، وجعلت من البيوت قبورا لأهلها، وسارت في معايش الناس بين صعبها وسهلها، وأظهرت لعقول العلماء أن أكثر علمها من فنون جهلها، فالأرض في بلاء منتشر لا يعرف له حجم، والشعوب في ظلام من اليأس ملتهب النجم، والدول في عصر كليل الشياطين كله رجم ...

قال "الشيخ علي": تلك هي الحرب القائمة اليوم ولكن كما ترى خيال النار في الماء، أما الحقيقة فكل حرف منها جيش، وكل كلمة أمة ووراء ذلك معنى رائع هو استجماع الحياة الأرضية لمقابلة الموت. ولو أن لهذا الكون مرضا يعتريه كما تعتري الناس أمراضهم لقلت إن شق الأرض قد ضرب بالفلج فأصبح شقها الآخر لا يكاد يجر ظله حول الشمس، لأن الحركة مقسومة بينه وبين ذلك النصف الميت، فقد اشتبكت العلائق بين دول الأرض جميعا، إذ لا تعرف دولة بين الناس ترعى شعبا من البهائم، ولما بدأ الإنسان يعرف نفسه في عصر العلم والمدنية عرف أخاه، لأن أكثر حقيقة الإنسان فيه، ومن ثم اتصل به اتصال اليد بأختها في المعاونة على ما يسرت له كلتاهما، وجمع العلم بين هذه الأمم لأنه لا ينتسب لواحدة منها وليس له في الأرض لا خال ولا عم، ولا يعرف شيئا يقول للعلم يا بني ويقول له العلم يا أبي إلا التاريخ الإنساني.

ولها سفر بين أمم الأرض كل ما يخرج من رأس الإنسان وما ينتج من يده، واتصل ذلك واستفاض حتى كأنما دارت الأرض دورة جديدة من داخلها، فما إن يقع الاضطراب في ناحية منها إلا دخلها من الأثر في سائر نواحيها، من هزة ترجف، إلى زلزلة تهدم، إلى الخسف الذي يجعل عاليها سافلها.

وإن باسط لك شيئاً من الرأي في كلمات قليلة، ولكنها كالمعركة الأخيرة التي يحق لها النصر، فتكون هي تاريخ الحياة ولا يكون ما سبقها إلا تاريخ للموت.

ألا فلتعلم أنه لو كان لحوادث منذ نشأ الدهر تاريخ صحيح يصف لنا ما كان سببا في كل حادثة وما صارت كل حادثة سببا فيه، لا ثبت يقينا أن ليس في الأرض شيئا من خير أو شر غير ما يلزم لبناء هذا التاريخ الأرضي على الوجه الذي يتفق مع بناء الإنسان، والتاريخ يطرد حيناً ثم يعطف ههنا وههنا في مجراه من الغيب، فلا يتحول إلا انشقت له ناحية من العالم.

فإن خربت دولة أو سقطت أمة فما هي بصاحبة الدهر كله، وقد كان لها قسمها منه ثم عاد الدهر يطلب قسمه منها. ولن يجدد البناء القديم حتى يكون الهدم أول العمل في تجديده.

فالحرب شر لا بد منه، لأنها من عوامل التحليل والتركيب في تاريخ الإنسانية، وهي بذلك سبب من أسباب استمراره. فكل شر لا بد منه فهو خير لا غنى عنه. وهل يبتغي للإنسان أن تضرب العصور والدول كمال تضرب الدنانير والدراهم من معدن معروف على وجه معروف ولغاية معروفة؟ وإذا لم يكن لنا مستقبل التاريخ وكنا في عمر محدود فما نحن والرأي في بناء هذا المستقبل، وكيف نقدم لله لآلات البناء ثم نحكم الشرط أن لا يكون في هذه الآلات ما يحتقر أو يكسر أو يرض.

إنما يجعل للحرب ذلك الوصف يطير لها في كل أرض صوتا بالذم والسوء، أنها لا تأتي إلا بغتة، ولا تطبق إلا في غفلات العيش، وأنه تثور في بياض الأمن الأحمر من لون الموت، وتطلع من خصب النعمة سوداء من لون القحط، وتنبثق بالشر من حيث يكون الشر مأمنا وتصب المحنة على من لا يطيقها، ثم لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تلف من جانبي الحياة لفا، وهي في كل ذلك البلية المكشوفة التي تشتهرها الأحاديث، وتضرب فيها الألسنة، وتسيل عليها الأوهام بما في طباع الناس من طبقات الأخلاق ضعفا وشدة، وخوفا وطمعا، وبخلا وكرما، وحذرا واندفاعا، بحيث تصبح وكأنما ترتمي على رأس كل إنسان بالموت، أو بالخوف من الموت، أو بالخبر عن الموت أو ما يشبه الموت، أو بما يكون الموت خيرا منه!.

وإلا فكم يترضرض الناس كل يوم، وكم يجدون من صنوف الدمار في الأعمار ومن ضروب الأرزاء في الأرزاق، ما لو جمع بعضه إلى بعض في نسق واحد لطم على هذه الحروب كلها، ولأظهر لك أن في السلم ما هو شر من الحرب وإن لم يصرخ به صوت الموت.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015