المساكين (صفحة 54)

وقد ثار الغبار كأنه طريق يمد من الأرض إلى السماء، أو كأنما أراد أن يمثل السحاب وقد رأى المطر تمثله الدماء، أو كأنه أرض ثامنة بدأت تتخلق مبعثرة في الفضاء، أو كأنه لما رأى الحرب تتوقد هب مستجيراً بالهواء من الرمضاء، أو هو قد فر من الأرض لما خشي أن تنفلق الأرض من حوافر الخيل، أو كأنه ألف أن يأتي الناس أعمال اللصوص في نور الشمس فضرب عليهم قبة من الليل، أو حسب عقول الجند في أيديهم وأرجلهم فطار ينظر أين تلك الهام، أو هو لما رأى المطر أحمر خشي على الأرض فثار على السماء ينظر ماذا دهى الغمام.

وقد رمت الأرض تلك المدافع بزلزالها، وألقت على الجنود صوراً من شر أفعالها، فتركتهم كالغابة الملتفة إذ استطار بها الحريق، وانحط فريق من أشجارها على فريق، وكأنما انقض عليهم من قنابلها جدار من جحيم، وكأن كل مدفع في صيحة الحرب إنما هو عنق شيطان رجيم.

تحمل في بطونه أجنة من النار ترتعد الحصون لهول ميلادها، وتتحنى القلاع مخافة منها على أولادها، ولها صوت بعيد كأنما تنادي به السماء لترسل المنايا الطارقة، أو لتستقبل الأرواح المفارقة، أو كأنه نشيد فخم تفتخر به الأرض على الرعد والصاعقة.

وهي القارعة وما أدراك ما القارعة، أما يومها فيوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش، وهو إن لم يكن يوم النفخ في الصور فإنه يوم تحصيل ما في الصدور، وإن لم يكن يوم يبعثر من في القبور فإنه يوم يبعثر الناس في القبور.

وهو المدفع حسبه قوة أنه من الحديد، وحسب ما يحويه قول الله عز وجل "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد في بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز" وحسبه رعباً أنه شكل (عصري) من عذاب الخسف القديم أعده الله لهذا الإنسان الجديد ... ، فكم من حصن منيع اعتز به أهله، فتركم فيها تراباً وعظاماً، وكم من قلعة شامخة اعتز الجند بقواها، "فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها".

وأما الرصاص فهم من سماء الموت حب غمامه، وله صفير كأنه ترنم الشيطان ببعض أنغامه، ولو أن عاصفة كنست أرض الجحيم لما شوت الوجوه بأشد من ناره، ولا حملت من هنالك إلا ما تحسب هذا الرصاص من حصاه وغباره، يثور كما تثور الأعاصير، ويندفع كما تندفع المقادير، ويقع على الأجسام بالأجل أو يطير، ويتناثر كأن في السماء نجم تفتت فسقط، أو كأن قطعة ذابت من الشمس فألقت على وجوه الناس هذا النقط، أو هو فوج من ذباب النار، وهبط إلى هذه الدار، فلا هم له إلا الجلود وإنضاجها بلذعة، والعيون وإخراجها بنزعة، والعروق واستخلاصها، والدماء وامتصاصها، والأرواح بعد ذلك واقتناصها.

وكأنه زفرات غير أنه لا تخرج من الصدر بل تنزل فيه، ولولا أنها تشويه ولا تشفيه. وهو أوقع في الرؤوس من الأوهام وأنفذ في الأغراض من مكايد الأفهام، وأحر على الأكباد من كل ما يضرم غضب الجبار المغيظ، وما هو إلا العذاب الرفيع إن كان المدفع هو العذاب الغليظ ...

وهناك من الروع ما لا يحصيه الوصف ولا يحصله، وإن عرفت آلة التصور كيف تجمله فليس يعرف القلم كيف يفصله، ولعمري لو كان البحر الأسود في المحبرة، لما بلغ في وصف هذه المقبرة، غير أنها في الحرب التي ابتدعها العلم لهلاك الإنسان، والقوة التي رزقها العقل فكانت بلاء على الأبدان.

قوة المعجزات التي أركبت هذه الديانة الإنسانية على متن الغمام، وطوت لها السماء بين جناحي النور والظلام، فإذا سمت الطيارة خفض لها السحاب جناح الذل، وأقبلت الملائكة تسأل ربها ما هذا الجزء من العالم بل ما هذا الكل، وما هذه الجرادة التي رأسها في ظهرها، وسرها في جهرها. بل ما هذه الحياة الأرضية التي عرجت في السماء فخرجت من حدود دهرها، وما هذا العقل الإنساني الذي لا يوزع جاشه والذي يرفعه إلى السماء ارتعاشه وهو مع ذلك يندفع على أهله بالويل اندفاع السيل، ويطلع نصفه كالنور على الأرض ليطلع نصفه الآخر كالليل؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015