فعبد الرازق، بنظريته هذه، إنما ينفي ضمنًا هذا الفارق ويدخل في الأمة تمييزًا بين النبوة والحكم السياسي، بين ملكوت الله وملكوت الدنيا، ذلك التمييز الذي يصح على المسيحية لا على الإسلام (79).

ولا يعتبر الشيخ بخيت هذا الخطر نظريًا وحسب، إذ أن ما يقوله عبد الرازق يفضي، آخر الأمر، إلى إنكار الشريعة ذاتها. فإذا لم يكن من شريعة، أي قانون يعلو على الحكم، انتفى المجتمع السياسي بمعناه الصحيح، وآلت الأمة إلى فوضى. إن البشر بحاجة إلى ضابط وحاكم يبقيهم ضمن الحدود المفروضة ويحول دون الاضطهاد ويقيم العدل ويحكم على ضوء قانون يقبل به الجميع. ولا يمكن تركهم أحرارًا يدبرون شؤونهم الدنيوية وفقًا لما يمليه عقلهم ومعرفتهم أو مصالحهم ورغباتهم، إذ يعني ذلك سيطرة القوي على الضعيف ونهاية الأمان الفردي (80).

يبدو، للوهلة الأولى، أن صوت الشيخ بخيت منبثق عن تراث الفكر الإسلامي العظيم. لكننا لو تحرينا القانون السياسي الذي يستنتجه هو من مبادئ الإسلام، لسمعنا صوتًا مختلفًا. فهو يتبنى قول عبد الرازق بأن الفكر السني قد أرجع دومًا سلطة الخليفة إما إلى الله مباشرة، وإما إلى الأمة، ويصرح مؤكدًا بأن الرأي الصحيح هو القائل بأن الأمة هي مصدر سلطة الخليفة، وبأن الخليفة يستمد سلطانه منها، وبأن الحكم الإسلامي الذي يرأسه الخليفة والإمام الأعظم إنما هو حكم ديمقراطي، حر، استشاري، دستوره كتاب الله وسنة رسوله (81).

وبهذا القول لا يعني الشيخ بخيت أن لمؤسسات الإسلام السياسية جميع فضائل المؤسسات الحديثة السياسية وحسب، بل يضمر أيضًا أنها لا تختلف عنها أصلًا. وهكذا نرى أن التوفيق بين المفاهيم الإسلامية والمفاهيم الحديثة الذي نادى به الكتاب السالفون أصبح اليوم مقبولًا بلا تساؤل. ويبدو أن الشيخ بخيت لم يكن يعلم أنه، بقوله هذا، إنما كان يمهد السبيل لتوغل العقلانية الغربية في الإسلام، وهو ما من أجله انتقد خصمه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015