شريعة أيضًا، أي إلى نظام خلقي مستمد من الكتاب. وقد كان عيسى نبيًا من النوع الأول، كما كان محمد نبيًا من النوع الثاني (75) لذلك كان تطبيق الشريعة جزءًا جوهريًا من رسالة محمد (76)، مما استلزم حيازته على سلطة سياسية، كما اقتضى أن تكون الجماعة الإسلامية منذ البدء جماعة سياسية. وفضلًا عن ذلك، فبما أن الكتاب والشريعة لم ينزلا من أجل جيل معين، بل من أجل كل الأجيال، وجب دائمًا وجود من يمارس السلطة السياسية في الأمة. فالدين الإسلامي قائم على السعي وراء السيطرة والسلطة والقوة والسؤدد، ورفض أي شريعة تنافي شريعته وسنته الإلهية وعدم الاعتراف بأي سلطة لا يكون صاحبها مكلفًا بتنفيذ أحكامها (77). فإذا لم يكن النبي زعيمًا سياسيًا، والأمة أمة سياسية، فإما أن لا وجود للنبي وللأمة، وإما يجب تغيير مفهومنا لهما، أي تغير ماهية الإسلام ذاتها.

ويتابع الشيخ بخيت نقده، فيجد في كتاب عبد الرازق ما هو أفظع من ذلك، وهو أنه يعطل الأداة التي بها يمكن، بمسؤولية، إحداث التغيير والتطور في الإسلام. فطريقة النظر الحذرة القائمة على القياس بمقدماته المستمدة من القرآن والحديث، والإجماع الذي كان نتاجًا لهذه العملية، وبالوقت نفسه حاميًا لها، أمر طرحه عبد الرازق جانبًا ليقيم مكانه عقل الفرد وأوهامه وشهواته، معتمدًا السفسطة والافتراض والأدلة الشعرية، مع أن الأمور التي أنكرها وأنكر براهينها إنما هي واقعة في حقل الفقه والشريعة الذي لم يكن للعقل أن يسير فيه وحده، والذي لا خيار فيه سوى اعتماد القرآن والسنة والإجماع أو القياس (78). وهذا يشكل خطرًا دائمًا، لكنه أشد خطرًا في الوقت الحاضر، إذ يتجه المسلمون اليوم لتنوير عقولهم الطبيعية، لا نحو المصادر الإسلامية، بل نحو المصادر الأوروبية والمسيحية، مع أن هناك فرقًا أساسيًا بين الإسلام والمسيحية في باب التعاليم الاجتماعية، وبنوع خاص في باب هذه القضية ذاتها، أي السلطة السياسية وطبيعة الجماعة الدينية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015