أقول: اعلم أنهم اختلفوا في مسمى القافية اختلافاً كثيراً، والناظم اقتصر على قولين منها فلنقتصر على الكلام عليهما تَبَعاً له. وينبغي أن تحقق أولاً محلَّ النزاع فنقول: قال الصفاقسي: ليس نزاعمه في مُسمى القافية لغةً، ولا فيما يُصطلح على أنه قافية، وإنما النزاع في القافية المُضافِ إليها العلم في قولهم ((علم القافية)) ما المراد بها. فذهب الأخفش إلى أنها الكلمة الأخيرة من البيت، وهذا هو الذي أراده الناظم بقوله أولاً ((وقافية البيت الأخيرة)) أي الكلمة الأخيرة، فحذف الموصوف لحصول العلم به. وذهب الخليل وأبو عَمرو الجرمى إلى أنها عبارة عن الساكنين اللذين في آخر البيت مع ما بينهما من الحروف المتحركة ومع المتحرك الذي قبل الساكن الأول، وهذا هو الذي أراده الناظم بقوله ((بل من المحرك قبل الساكنين إلى انتها)) وبعض العروضيين يعبر عما قبل الساكن الأول بالمتحرك كما فعل الناظم، وبعضهم يعبر بالحركة فيقول: من الحركة التي قبل الساكن الأول. ووجّه أبو الفتح ابن جنىّ قول من عبَّر بالحركة بأن القصد أن لا يسمى قافيةً إلا ما تلزم إعادته من كل وجهٍ، والحركة التي قبل الساكن الأول بهذه المثابة، بخلاف حرفها فإن له أن يأتي بمثله أو بحرف آخر متحرك. واعترضه الصفاقسي بأن هذه الحركة التي قبل الساكن الأول كحرفها، فإنها إذا كانت في البيت الأول ضمة جاز أن تكون في البيت الثاني فتحة أو كسرة وبالعكس، كما أن حرفها يكون ميماً في بعض البيوت وفاءً في الآخر أو غير ذلك، ألا ترى إلى قول امرئ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ... بسقط اللّوى بين الدَّخول فحوملِ

تَرَى بَعَرَ الآرام في عَرَصَاتها ... وقيعانها كأنّها حَبُّ فُلفُلِ

فالأول حاءٌ مفتوحة موضعها في الثاني فاء مضمومة، فحينئذ ما ذكره من أن الحركة تلزم إعادتها من كل وجهٍ وَهْم، بلْ هي كحرفها. واعترضه أيضاً أبو العباس بن الحجاج (بعدم) لزومِ ذلك في الدخيل لأنه لا يلزم إعادته من كل وجه، وكذا غيرهُ من حروف القافية إلا الرويّ والتأسيس، وهو لم يتعرض لذكر شيءٍ منها. وأضرب الناظم عن القول الاول وهو قول الأخفش لأنه غير مُرتضىً عنده، ولا شك أنه مقدوح فيه، وقد اعترضه ابنُ جنى بأن الاتفاق قائم على أن في القوافي قافيةً يُقال لها المتكاوس، وهو ما توالت فيه أربعةُ أحرف متحركة بين ساكنين نحو فَعِلَتُن المخبول، وذلك نحو قول العجّاج:

قد جَبَرَ الدينَ الإله فَجَبّرْ

ألا ترى أن قوله ((هُفَجَبَرْ)) وزه ((فَعِلَتُن)) ، وقد سُلم أنه قافية مع تركبه من كلمتين وبعض أخرى. ورُجّح مذهب الأخفش بأن العرب يقولون البيت حتى إذا لم يبق منه إلا الكلمة الأخيرة قالوا: بقيت القافية، وإذا قال الشاعر اجمعوا إليّ قوافي الطاء مثلاً فإنما يجمع له كلماتٌ أواخرها طاء والأصل في الإطلاق تحقيقه. وردّه الصفاقسي بأن تسمية الكلمات قوافي إنما هو بالمعنى اللغوي، وليس محلَّ النزاع على ما عرفت أولاً، ولئن سُلّم فلِمَ لا يجوز أن يكون ذلك لأن القافية لا تخرج عن تلك الكلمات، إما لأنها هي القافية إذا اجتمع فيها ما ذكرناه، أو بعضها إذا كان فيها بعضه، أو تشتمل عليه وتزيد إنْ كانت أكثر منه، وهذا وإن كان مجازاً فيجيب الحَملُ عليه جمعاً بين الدليلين، لأن العمل بكل واحد منهما من وجهٍ أَولى من إلغاء أحدهما مطلقاً. واشتقاق القافية من ((قفا يقفو)) إذا تَبِعَ، فهي تقفو أثر كلِّ بيت، أو تقفو أثر أخواتها. والأول أولى لأن البيت الأول لا يصح فيه المعنى الثاني، وعلى كلا القولين فهي فاعلة على بابها. وقيل: لأن الشاعر يقفوها لأنها تجري له في البيت الأول على السبحية ثم يتبعها في سائر الأبيات، فهي فاعلة بمعنى مفعولة، كعيشة ((راضية)) أي ((مرضية)) . ويعزى هذا القول إلى ابي موسى الحامض، قال ابن بري. ثم القافية عند الخليل قد تكون بعض كلمة كقوله:

ويلوى بأثواب العنيف المُثَقَّلِ

وقد تكون كلمة كقوله:

إذا جاش فيه حَميهُ غلىُ مِرجلِ

وقد تكون كلمتين كقوله:

كجلمود صخرٍ حطه السيل من علِ

وقد تكون أكثر كقوله:

قد جبر الدين الغله فَجَبَرْ

قال:

تحوز روياً حرفاً انتسبت له ... وتحريكه المجرى فإن قُرِنا بما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015