الزهره (صفحة 214)

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الدّاءُ

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسَّها حجرٌ مسَّتهُ سرّاءُ

قال الأعشى:

إذا قلتُ غنّي الشَّرب قامت بمزهرٍ ... يكادُ إذا دارت به الكف ينطقُ

وساق إذا شئنا كميشٌ بمسعر ... وصفراء مرنان إذا ما تصعَّقُ

تريك القذى من دونها وهي فوقه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمطقُ

وقال آخر:

وصرعة مخمور دفعت بقرقفٍ ... وقد صرعتني قبل ذلك قُرقفُ

فقام يداوي صرعتي متعطفاً ... وكنت عليه قبلها أتعطَّفُ

نموت ونحيا تارة بعد تارةٍ ... وتخلفنا أيدي المدام وتتلفُ

إذا ما تسلَّفنا من الكأس سكرةً ... تقاضى الكرى منّا الَّذي نتسلَّفُ

وقال:

وكأس يكون الماء حين يَمُسُّها ... قذًى ثمَّ يعلوه بجثمان طائر

إذا دبَّ فيها الماء قارن صعبُهُ ... جموحاً عليه سهلة في الحناجر

قال مسلم:

سلْ ليلة الخيف هل قصَّرتُ آخرها ... بالراح قرب نسيم الخُرّد الغيدِ

شججتها بلُعاب المُزْنِ فاعتدلت ... نسجين من بين محلول ومعقودِ

قال أبو نواس:

قامت بإبريقها واللَّيل معتكرٌ ... فلاح من وجهها في البيت لألاءُ

فأفرغت من فم الإبريق صافيةً ... كأنَّما أخذُها للعين إغفاءُ

رقَّت من الماء حتَّى ما يلائمها ... لطافة وجفا عن شكلها الماءُ

فلو مزجت بها نوراً لمازجها ... حتَّى تولد أنوارٌ وأضواءُ

وقد أكثر الشعراء في تفضيل رقة الخمر على رقة الماء، وليس الأمر على ما يقدرونه، وذلك أنَّ الخمر متولّدة من جوهر الماء، ومحال أن يكون جزء من الشَّيء أرقّ من كلّ شيء. ولن يكون بعضه أرقّ من بعض، والعلَّة الَّتي دعت إلى توهُّم الخمر أنَّها أرقّ من الماء هي أن الماء إذا صُبَّ عليها تكدَّر صفاؤه، ونقصت رقتها، وذلك لأن الماء لا يتهيّأ للآدميين تخليصه من الكدورة الحالَّة به، والأجسام الممازجة له، وإن جهدوا بقوتهم في تصفيته كما تصفَّى أعواد الكرم في اجتذابها إيَّاه إلى ثمارها بلطيف قواها الَّتي ركّبها الله عز وجل بحكمته فيها، فهي بتلك اللّطافة تجتذب صفوة، وتجفو عن رقَّة مسالكها كدره، فيخلص لها الماء وحده، فإذا مزجت بعد ذلك بالماء الممزوج بغيره تبين أن الأوَّل أصفى منه.

قال أبو نواس:

يا شقيق النَّفس من حكم ... نمت عن عيني ولم أنمِ

فاسقني البكر الَّتي اختمرت ... بخمار الشَّيْب في الرّحم

مع شبابٍ سادةٍ نُجُبٍ ... أخذوا اللذّات عن أممِ

فتمشَّت في مفاصلهم ... كتمشِّي البُرء في السّقمِ

وقال أيضاً:

لا تبك ليلَى ولا تطرب إلى هندِ ... واشرب علَى الوردِ من حمراء كالوردِ

كأساً إذا انحدرتْ من حلقِ شاربها ... أغنتك حمرتها في العينِ والخدِّ

فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة ... من كفّ لؤلؤة ممشوقة القدِّ

تسقيك من عينها خمراً ومن يدها ... خمراً فما لك من سكرين من بُدِّ

لي نشوتان وللنّدمان واحدةٌ ... شيء خُصصتُ به من بينهم وحدِي

قال أيضاً:

اسقني يا ابن أُذين ... من سُلافِ الزرجُون

عُتّقت في الدنّ حتَّى ... هي في رقة ديني

ولعمري لقد بالغ في الصفة، وإن دينه لفي نهاية الرقة، ولقد أحسن في قوله:

وليس للهمّ إلاَّ شربُ صافيةٍ ... كأنَّها دمعةٌ من عين مهجور

وإنَّما تكامل صفاء دمع المهجور لأنه لا يكتحل، فدمعه صرف غير متكدر. وقال في نحو ذلك الحسين بن الضحاك:

حتَّى إذا أسندت في البيت واحتضرتْ ... عند الشّروق ببسَّامين أكفاءِ

فُضَّت خواتمها في نعت واصفها ... عن مثل رقرقة في جفن مَرْهاءِ

وقال:

ما زلتُ أشربُ روح الدنّ في لُطف ... وأستقي دمَه من جوف مجروح

حتَّى صدرتُ ولي روحان في جَسَد ... والدنُّ مُطّرح جسم بلا روح

وقال الطائي:

أفيكم فتًى حيّ فيخبرني عنِّي ... بما شَربت مشروبة الرَّاح من ذهني

تُورِّدُ روح المرء من كلِّ وجهةٍ ... وتدخل فيه كيف شاءتْ بلا أذنِ

قال إسحاق الموصلي:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015