الحاوي للفتاوي (صفحة 755)

وَكِلَاهُمَا دَالَّانِ عَلَى غَيْرِكَ، يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ لَهُمَا تَعَلُّقًا بِالْغَيْرِ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقُ بِمَقْدُورٍ وَالِاقْتِدَارَ بِمَقْدُورٍ عَلَيْهِ وَالْجُودَ بِمُتَفَضَّلٍ عَلَيْهِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَجُوزُ شَرْعًا أَنْ يُوصَفَ بِهِمَا غَيْرُهُ تَعَالَى وَأَنْ يُطْلَقَا عَلَيْهِ وَلِذَا قَالَ عقبه: فَبِالسِّرِّ الْجَامِعِ الدَّالِّ عَلَيْكَ، أَيْ: بِالِاسْمِ الْخَاصِّ بِكَ وَهُوَ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْغَيْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ تَعَالَى، وَهُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ فِيمَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى الذَّاتِ وَهُوَ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ فَإِنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْوَصْفِ بِمَدْلُولِهَا، قَوْلُهُ: لَا تَدَعْنِي لِغَيْرِكَ بَلِ اجْعَلْنِي لَكَ عِبَادَتِي وَدُعَائِي وَخَوْفِي وَرَجَائِي وَتَوَجُّهِي وَحَرَكَاتِي وَسَكَنَاتِي، هَذَا مَا ظَهَرَ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدَ ذَلِكَ كَلَامًا لِلشِّهَابِ أحمد بن عبد الواحد بن الميلق عَلَى هَذَا الْفَصْلِ قَالَ: قَوْلُ الْأُسْتَاذِ يَعْنِي أبا العباس المرسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِلَهِي مَعْصِيَتُكَ نَادَتْنِي بِالطَّاعَةِ: يَحْتَمِلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ مُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ سَبَقَ تَعَلُّقُ عِلْمِكَ بِهَا وَقُدْرَتِكَ بِإِيجَادِهَا وَإِرَادَتِكَ بِتَخْصِيصِهَا، فَتَعَيَّنَ وُجُودُهَا عَلَى حَسَبِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ تَعْيِينًا لُزُومِيًّا لِلْعَبْدِ ضَرُورَةَ بُطْلَانِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ وَتَبَدُّلِهِ جَهْلًا، وَتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَتَبَدُّلِهَا عَجْزًا، وَتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ وَتَبَدُّلِهَا قَسْرًا، فَلَيْسَ إِلَّا وُقُوعُ هَذَا الْمُقْتَضَى عَلَى حَسَبِ سَابِقِ الْقَضَاءِ فَأَنَّى يُمْكِنُ الْعَبْدَ الْحَوْلُ عَنْهَا، وَوُقُوعُهَا مِنْهُ حَتْمًا عَدْلًا مِنَ الْقَهَّارِ لَا ظُلْمًا، فَلِهَذَا كَانَتْ مُنَادِيَةً عَلَيْهِ بِالطَّاعَةِ أَيْ بِالدُّخُولِ تَحْتَ مَجَارِي الْقَهْرِ اسْتِسْلَامًا لِلْقَهَّارِ كَمَا قَالَ - جَلَّ وَعَلَا -: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فَهَذِهِ الطَّاعَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي كَلَامِ الْأُسْتَاذِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّهَا مَجَازٌ فِي تِلْوِ هَذَا الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَطَاعَتُكَ نَادَتْنِي بِالْمَعْصِيَةِ: يَحْتَمِلُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ مُشِيرًا إِلَى مَا سَبَقَ، تَعَلُّقُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، بَدَأَ بِالطَّاعَةِ الَّتِي جَرَتْ عَلَى يَدِ الْعَبْدِ فَكَانَ الْحَقُّ وُقُوعَهَا وَالْبَاطِلُ امْتِنَاعَهَا لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ أَطَاعَ وَمَا خَالَفَ فَيَكُونُ مُنَادِيًا عَلَى نَفْسِهِ بِلِسَانِ حَالِ رُؤْيَتِهِ طَاعَتَهُ مَوْلَاهُ بِدَعْوَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فِي حَالِ الْإِطَاعَةِ حَقِيقَةً فَعَدَلَ عَنِ الْمُخَالَفَةِ لِلطَّاعَةِ فَأَطَاعَ، وَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فِي حَالِ جَرَيَانِ الْفَضْلِ الْمُقَدَّرِ الْمُسَمَّى بِالطَّاعَةِ فَهُوَ فِي عَيْنِ الْمَعْصِيَةِ، فَتَبَيَّنَ مِنْ هُنَا أَنَّ نِسْبَةَ الطَّاعَةِ لَهُ مَجَازٌ كَنِسْبَتِهَا لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ فُهِمَ الْغَرَضُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمِنْ هَذَا الْمَوْطِنِ يُفْهَمُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015