الحاوي للفتاوي (صفحة 754)

وَأَيْضًا فَالطَّاعَةُ قَدْ تَكُونُ مَذْمُومَةً لِنُقْصَانِهَا بِتَخَلُّفِ أُمُورٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَخَلَّفَ عَنْهَا، كَالذِّكْرِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَارِنَهُ حُضُورُ الْقَلْبِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ: اسْتِغْفَارُنَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ، وَكَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَارِنَهُ الِائْتِمَارُ وَالِانْتِهَاءُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي ذَمِّ مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَأْتَمِرْ بِهِ، وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَمْ يَنْتَهِ عَنْهُ، وَكَالصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نَاهِيَةً عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ كَمَا وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَكَالصَّوْمِ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ عَنِ الْغِيبَةِ وَنَحْوِهَا كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِ الطَّاعَاتِ الَّتِي لَا تُحْمَدُ مَا لَمْ تَبْلُغْ رُتْبَةَ الْكَمَالِ وَتَخْلُصْ مِنْ شَوَائِبِ النُّقْصَانِ.

قَوْلُهُ: إِنْ قُلْتُ بِالْمَعْصِيَةِ قَابَلْتَنِي بِفَضْلِكَ، أَيْ: ذَكَّرْتَنِي فَضْلَكَ وَسِعَةَ رَحْمَتِكَ وَمُغْفِرَتِكَ فَلَمْ تَدَعْ لِي خَوْفًا وَفَتَحْتَ لِي أَبْوَابَ الرَّجَاءِ، فِي الْحَدِيثِ: ( «لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. قَوْلُهُ: وَإِنْ قُلْتُ بِالطَّاعَةِ قَابَلْتَنِي بِعَدْلِكَ، أَيْ: ذَكَّرْتَنِي مَا لِي مِنَ الذُّنُوبِ وَمَا فِي طَاعَتِي مِنَ التَّقْصِيرِ الَّذِي يَكَادُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الِاعْتِدَادِ بِهَا فَضْلًا عَنْ تَكْفِيرِ الْخَوَاتِمِ. قَوْلُهُ: فَلَمْ تَدَعْ لِي رَجَاءً: لِاتِّسَاعِ الْخَوْفِ حِينَئِذٍ عَلَيَّ، فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ رَجُلًا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ هَرَمًا فِي مَرْضَاتِ اللَّهِ لَخَفَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، قَوْلُهُ: فَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَرَى إِحْسَانِي مَعَ إِحْسَانِكَ! أَيْ كَيْفَ أَعُدُّهُ إِحْسَانًا يَسْتَوْجِبُ الْجَزَاءَ مَعَ أَنَّ إِقْدَارِي عَلَيْهِ إِحْسَانٌ مِنْكَ وَنِعْمَةٌ تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ وَالْمَزِيدَ فِي الْعَمَلِ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرَّا مَعَ مَزِيدِ الْإِحْسَانِ وَجَزِيلِ الْإِفْضَالِ الْخَارِجِ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُنَاسِبُ جُمْلَةَ الْخَوْفِ، قَوْلُهُ: أَمْ كَيْفَ أَجْهَلُ فَضْلَكَ بِالْحِلْمِ وَالْإِمْهَالِ وَالْإِنْعَامِ مَعَ عِصْيَانِي لَكَ؟ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُنَاسِبُ جُمْلَةَ الرَّجَاءِ، قَوْلُهُ: ق ج سِرَّانِ مِنْ سِرِّكَ الظَّاهِرِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَخَذَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ مِنْ وَصْفَيْنِ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الم، وطس، وَق، وَن، وَص، أَنَّهَا حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا مِنَ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهَا مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْقَافُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَدِيرٍ أَوْ مُقْتَدِرٍ، وَالْجِيمُ مِنْ جَوَادٍ، وَكَلَاهُمَا مُنَاسِبَانِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَالْخَوْفُ يُنَاسِبُهُ الْقُدْرَةُ أَوِ الِاقْتِدَارُ، وَالرَّجَاءُ يُنَاسِبُهُ الْجُودُ، قَوْلُهُ:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015