عَنْهُمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اخْتِصَاصَهُمْ بِالْكَرَامَةِ لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ نَاشِئِينَ عَنْ فِئَةٍ مُكَرَّمَةٍ بِمُصَاحَبَةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَحَصَلَ تَنْوِيهُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَصُحْبَتِهِ وَنَسْلِهِمْ بِطَرِيقِ إِيجَازٍ بَدِيعٍ.

وَجُمْلَةُ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ إِلَخْ، عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا إِلَى آخِرِهَا، وَهِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّهَا تَبْيِينٌ لِمَا أَفَادَهُ التَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ مِنَ الِاحْتِرَازِ عَنْ أُمَمٍ آخَرِينَ. وَهَذِهِ الْوَاو تسمى استينافية وَأَصْلُهَا الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ وَبَعْضُهُمْ يُرْجِعُهَا إِلَى الْوَاوِ الزَّائِدَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ، وَالْمَقْصُودُ: تَحْذِيرُ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الَّذِينَ أُغْرِقُوا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَلَمْ يَتَّبِعُوا سَبِيلَ جَدِّهِمْ، فَأُشْعِرُوا بِأَنَّهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي أَنْبَأَ اللَّهُ نُوحًا بِأَنَّهُ سَيُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الْإِسْرَاء: 3] أَيْ وَكَانَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ غَيْرَ شَاكِرِينَ لِلنِّعْمَةِ.

وَإِطْلَاقُ الْمَسِّ عَلَى الْإِصَابَةِ الْقَوِيَّةِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ

فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ

فِي الْأَنْعَامِ [17] .

وَذِكْرُ مِنَّا مَعَ يَمَسُّهُمْ لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ فِي ضِدِّهِ بِسَلامٍ مِنَّا لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَا يُصِيبُ الْأُمَّةَ مِنَ الْأَحْوَالِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْمُعْتَادِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ هُوَ إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ بِالرِّضَى أَوِ الْغَضَبِ لِئَلَّا يَحْسَبُوا ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ تُرَتَّبِ الْمُسَبَّبَاتِ الْعَادِيَّةِ عَلَى أَسْبَابِهَا، إِذْ مِنْ حَقِّ النَّاسِ أَنْ يَتَبَصَّرُوا فِي الْحَوَادِثِ وَيَتَوَسَّمُوا فِي جَرَيَانِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ وَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُهُمْ بِدَلَالَةِ الْكَائِنَاتِ عِنْدَ انْقِطَاعِ خِطَابِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، فَإِنَّ الرُّسُلَ يُبَيِّنُونَ لَهُمْ طُرُقَ الدَّلَالَةِ وَيَكِلُونَ إِلَيْهِمُ النَّظَرَ فِي وَضْعِ الْمَدْلُولَاتِ عِنْدَ دَلَالَاتِهَا. وَمِثَالُهُ مَا هُنَا فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ يُمَتِّعُ أُمَمًا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا يصنعون.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015