عَلَى الْحَكَمِ الْمَأتِيِّ يَوْماً إِذَا قَضَى ... قَضِيَّتَهُ أَنْ لاَ يَجُورَ وَيَقْصِدُ

وَيقْصِدُ: بالرَّفعِ أي: وهو يَعْدِلُ، فحمل الكلام هنا على الاستئناف متعيّن، إذ كيف يَجِبُ على الْحَكَمِ إذا قَضَى قضيَّتَهُ أن لا يجور ولا يعدل، هذا تناقض.

وأرى أنّ الواو التي تدخل على الجملة الاعتراضيّة هي واو استئناف وليست واو عطف.

***

(4) مع علماء البلاغة في تقسيماتهم

تأمَّلْتُ فيما ذكر البلاغيّون من تقسيم لأحوال الجمل التي لا محلّ لها من الإِعراب حول الفصل والوصل بينها في الكلام، فرأيت أنّهم بالبحث التحليليّ قد ذكروا لها سبعة أقسام متفرّعة من تقسيمين رئيسَيْن، وأنّهم فصّلوا بعض هذه الأقسام إلى فروع بحسب أحوالها.

وفيما يلي بيان ذلك مع بعض تعديل في شجرة التقسيم التي ذكروها.

القسم الأول: ما يجب فيه الفصل (أي: عدم عطف الجملة التالية على الجملة السابقة بالواو) .

وهذا يكون في أربع صُوَر:

الصورة الأولى: أن يكون بين الجملتين "كَمَالُ اتّصال" إذْ لا تغايُر بين الجملتين حتّى تُعطَفَ التالية على السابقة.

وهذ الصورة تظهر في ثلاثة وجوه:

الوجه الأول: أن تكون الجملةُ التالية توكيداً للجملة السابقة، لزيادة التقرير، أو لدفع توهُّم المجاز، أو لدفع توهُّمِ الْغَلَط، وهذه الجملةُ التوكيديّة:

* قد تكون من قبيل التوكيد اللّفظيّ مثل قول الله عزَّ وجلَّ: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} .

* وقد تكون من قبيل التوكيد المعنويّ، مثل ما حكى الله عزّ وجلّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) عمّا قال النسوة حين رأَيْنَ يوسف عليه السلام في بيت العزيز:

{مَا هاذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [الآية: 31] .

فجملة {إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} توكيدٌ معنويٌّ لجملة {مَا هاذا بَشَراً} لأنّ إثبات كونه ملكاً كريماً تأكِيدٌ وتحقيقٌ لنفي كونه بشراً.

ومثل قول المتنبيّ:

وَمَا الدَّهْرُ إِلاَّ مِنْ رُوَاةِ قَصَائِدي ... إِذا قُلْتُ شِعراً أَصْبَحَ الدَّهْرُ مُنْشِداً

الوجه الثاني: أن تكون الجملة التالية بدلاً من الجملة السابقة، وجملة البدل:

* قد تكون بدل كلٍّ مِنْ كلٍّ، ويسمّى "الْبَدَلَ المطابق" مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول) :

{بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون * قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الآيات: 81 - 82] .

*وقد تكون بدَلَ بعْضٍ مِنْ كلٍّ، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) حكاية لمقالة هودٍ عليه السلام لقومه:

{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الآيات: 131 - 134] .

فالأنعام والبنون والجنات والعيون هي بعض ما أمدّهم به مما يعلمون، وفائدة هذا البدل ذكر بعض العناصر مفصلة لأهمّيتها عند المخاطبين، بعد ذكرها بشكل مجمل.

* وقد تكون بدَلَ اشتمال، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (يَس/ 36 مصحف/ 41 نزول) حكايةً لمقالة الرجل المؤمن الذي جاء يَسْعَى من أهل أنطاكية، يعظ قومه أن يتَّبعُوا المرسلين الثلاثة الذين أُرْسُلو إليهم:

{وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الآيات: 20 - 21] .

فجملة {اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً ... } بدل من جملة {اتّبعُوا المرسلين} التي تشتمل بمفهومها العام على معنى الجملة التي جاءت بدلاً منها. والغرض التنبيه على قضيّة مهمّةٍ فيهم، وهي إخلاصهم وعدم سعيهم لغرض دنيويٍّ من دعوتهم.

الوجه الثالث: أن تكون الجملة التالية معطوفة على الجملة السابقة عطف بيان، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (طَه/ 20 مصحف/ 45 نزول) :

{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} [الآية: 120] .

فجلمة: "قال يا آدم ... " عطف بيان على جملة {فَوَسْوَسَ ... } وهي لبيان مضمون الوسوسة التي وسوس بها الشيطان.

وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) خطاباً لبني إسرائيل:

{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الآية: 141] .

فجملة: "يُقتّلون أبناءكم" والتي بعدها عطف بيان لجملة: "يسومونكم سُوءَ العذاب".

الصُّوَرة الثانية: أَنْ يكون بين الجملتين "شِبْهُ كمال الاتصال". وهذا يكون حينما تكونُ الجملةُ السابقة ممّا يثير في نفس المتلَقّي سُؤالاً يتردَدُ في نفسه ولو لم يُصَرِّحْ به، فتأتي الجملة التالية لتجيب على هذا السؤال، وتأتي دون أن تعطف بالواو، وعلى أسلوب الاستئناف، فالجملة الواقعة جواباً لسؤالٍ مقدّر ذهناً غيرِ مصرّحٍ به في اللّفظ، لكن من شأنه أن تثيره في النفوس الجملة السّابقة هي جملة استئنافيّة.

قالوا: والسؤال الذي تثيره الجملة السّابقة على وجوه:

* فإِمَّا أن يكون سؤالاً عن سبب الحكم الذي تضمّنته الجملة السابقة بوجه عامّ، مثل قول الشاعر:

قَالَ لِي: كَيْفَ أَنْتَ؟ قُلْتٌ: عَلِيلٌ ... سَهَرٌ دَائِمٌ وَحُزْنٌ طَوِيلُ

فجملة "سَهَرٌ دائم ... " جملةٌ استئنافية جاءت بدون عطف بالواو، إذْ وقَعَت جواب سؤالٍ تُثِيرُه جملة "أنا عَلِيل" لأنّ من طبيعة المتَلَقِّي أن تتحرّك نفسه بسؤالٍ مضمونه: ما سبَبُ كُوْنِكَ عليلاً؟ وأسْرَعَ المتكلم فأجاب على السؤال دون أن يُطرَحَ عليه، أي: أنا عاشقٌ بعيد عن محبوبه.

فالسؤال عن سبب حدوث العلّة المرضية هو سؤال عن السبب بوجه عامٍّ، إذ عادة الناس أنَّهم إذا قيل لهم: فلانٌ مريضٌ، قالوا: ما سبب مرضه؟.

* وإمّا أن يكون سؤالاً عن سبب خاص، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) حكاية لمقالة يوسف عليه السلام:

{*وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الآية: 35] .

فجملة: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} جملة مستأنفة وقعت جواب سؤال تثيره جملة {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} .

لقد سبق هذه الآية بيان أن يوسف عليه السلام قال:

{ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} [الآية: 52] .

فَبَعْدَ أَنْ أعْلَنَ براءَتَهُ من الخيانةِ، واعترفَت امرأةُ العزيز بأنَّها هي التي راودَتْهُ عن نفسه، تتساءل النفس قائلة: ما الّذي جعل يوسف عليه السلام يقول: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} بعد أنْ ثبتت براءته وثبتت طهارتُه وعِفَّته، فما هو السبب الخاصُّ الذين جعله يقول هذا القول؟ وقد أسرع عليه السلام فأجاب على السؤال بقوله: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} والسوءُ الذي حدّثته نفسه به ولم يَعْمَلْه، هو هَمُّهُ بضَرْبها بَعْد أنْ همَّتْ بضربه لمّا استعصم بالله، متعفّفاً عن الفاحشة.

* وإمَّا أن تُثِير الجملة السابقة سؤالاً ما، لا عن السبب العامّ للحكم فيها، ولا عن السبب الخاصّ، مثل ما جاء في قول الله عزّ وجلّ يَقُصُّ قصّة إبراهيم عليه السلام في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) :

{وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [الآية: 69] .

حَنِيذ: أي: مَشْوِيّ.

إنّ من طبيعة أَيِّ متلَقٍّ للقصة، أنْ يتساءل بعد أن يَسْمَعَ أنّ الرُّسُل من الملائكة الذين جاءوه وقالوا له سلاماً، فيقول في نفسه، فماذا أجابهم إبراهيم عليه السلام؟ فجاءت جملة: {قَالَ سَلاَمٌ} جواباً على هذا السؤال.

ومنه قول الشاعر:

زَعَمَ الْعَواذِلُ أَنَّنِي في غَمْرَةٍ ... صَدَقُوا ولكِنْ غَمْرَتِي لاَ تَنْجَلِي

إنّ الشطر الأول يثير في النفس سؤالاً وهو: إذا كان العواذل قد زعموا أنَّكَ في غَمْرَة فماذا تقول أنت؟ فأجاب على هذا التساؤل بقوله: "صَدَقوا" وزاد على قولهم تأكيداً بقوله: "ولكِنْ غَمْرَتي لا تَنْجَلِي" وهذا من تأكيد الشيء بما يوهم في بدايته خلافه.

الغمرة: الشّدّة.

ملحوظتان:

(1) قد يُحْذَفُ صَدْرُ جواب السؤال المقدّر الذي أثارته الجملة السابقة، ويُسْتَغْنَى عَنْه بما جاء بعده ممّا يدلُّ عليه، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) كَمَا جَاءَ في قراءةَ ابن عامر الشامي وشبعة {يُسَبِّحُ} بالبناء للمجهول:

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} [الآيات: 36 - 37] .

قراءة جمهور القرّاء العشرة {يُسَبِّحُ} وَلَيْسَ فيها شاهِدٌ لمَا نَحْنُ فيه، أمّا قراءة ابن عامر وشعبة {يُسَبَّحُ} بالبناء لما لم يُسَمَّ فَاعِلُهُ فهي التي تتضمّن الشاهِدَ المطلوب.

إنّ جملة {يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} جملة تامَّةٌ تثير سؤالاً وهو: مَنِ الذي يُسَبِّحُ للهِ فيها؟

والجوابُ: يُسَبِّحُ فيها رَجَالٌ ... فَحُذِفَ صَدْر الجواب وهو فِعْلٌ واستغني عنه بذكر فاعله "رجالٌ".

(2) وقد تُحذف جملة الجواب كلُّها، ويُكْتَفَى بذكر ما يَدُلُّ عليها، منه قول الشاعر "مُسَاوِرِ بن هند" يهجو "بني أسَد":

زَعَمْتُم أَنَّ إخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ ... لَهُمْ إلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَفُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015