تبين ملامحها0لهذه (الحيثيات) جميعا ينبغي تناول مجهود البخاري في كتابه الجامع الصحيح بالذات من هذه الزوايا التي طرحها سزكين - رحمه الله وعفا عنا وعنه - مع معرفتنا بقدر الأستاذ في الدفاع عن التراث اللإسلتمي والتأريخ له، ولكن تكون الزلة أحيانا أمرا لا مفر من إظهاره لما وراءها من مغبات لا تحمد 0فقد اتفقت كلمة العلماء علي أن الإمام البخاري هو أول من صنف في الصحيح، خاصة وأن كتابه هو أصح الكتب بعد كتاب الله تعالي، وقد قال الإمام البخاري عن نفسه " أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح " {9} غير أن أحاديث " الجامع الصحيح هي طائفة منتقاة من محصول البخاري الحديثي، فهي لا تتجاوز السبعة آلاف حديث بالمكرر. {10} الدقة في الانتقاء: والذى يطلع علي هذا المنهج الذي اتبعه البخاري في انتقاء أصح الأحاديث ليجعلها في كتابه الصحيح لا يستطيع أن يكتم العجب، فقد أتاحت له خبرته العميقة بطبقات الرجال وتبين الملامح الدقيقة في عملية الضبط والتثبت، وتمييز الفروق الدقيقة بين تلاميذ الشيخ الواحد حين تجمعهم صفة الصدق والأمانة ـ أقول: أتاح له ذلك كله منهجا فذا في اختيار أصح الصحيح؛ فهو لم يكتف بشرط الصحة الذي اكتفي به غيره، وإنما اختار من أحاديث كل شيء أحسنها ـ علي أساس التمييز بين الثقات الذين رووا عنه، ويوضح الحافظ أبو بكر الحازمي ذلك بقوله:" فلنوضح ذلك بمثال؛ وهو أن نعلم أن أصحاب الزهري {11} مثلا علي خمس طبقات، ولكل طبقة منها مزية علي التي تليها، فمن كان في الطبقة الأولي فهو الغاية في الصحة، وهو مقصد البخاري 0 والطبقة الثانية شاركت الأولي في التثبت، إلا أن الأولي جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري، حتى كان منهم من يزامله في السفر، ويلازمه في الحضر، والطبقة الثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة فلم تمارس حديثه، فكانوا في الإتقان دون الأولي وهم شرط مسلم 000 " {12} هل يصح بعد هذا أن يقال أن البخاري استخدم الكتب السابقة عليه دون انتقاء ودون توثيق؟ وأن كتابه ليس إلا جمعا ملخصا للكتابات التي سبقته؟ وأن هذا يدل علي أن الإسناد قد بدأ يفقد قيمته، ومكانته عند البخاري؟! أفلا يصح أن يستنتج من هذا المنهج حقا أن الناحية العلمية الراقية الموفقة لاستخدام الإسناد كانت علي يد البخاري رحمه الله؟ (التعليق) وانهيار الإسناد:ويصرح الأستاذ سزكين - رحمه الله ـ بغير تحفظ ـ مشايعا جولد زيهر وغيره من المستشرقين ـ أن الأسانيد ناقصة في حوالي ربع المادة، وقد أطلق علي هذا الأمر ـ ابتداء من القرن الرابع ـ اسم (التعليق) {13}، وبهذا يفقد كتاب البخاري كثيرا من سمته مصنفا جامعا شاملا، أما البخاري فقد برهن علي أنه ليس عالم الحديث ـ الذي طور الإسناد إلي الكمال 000 بل هو أول من بدأ معه انهيار الإسناد 0 {14} وقد تطرق مثل هذا الوهم السابق إلي بعض الرواة، حيث سأل الإمام البخاري عن خبر حديث، فقال له البخاري: " يا أبا فلان: تراني أدلس؟ وأنا تركت عشرة آلاف حديث لرجل لي فيه نظر، وتركت مثله أو أكثر منه لغيره لي فيه نظر؟ {15} قال الحافظ ابن حجر: " يعني إذا كان يسمح بترك هذا القدر العظيم، كيف نشره لقدر يسير؟ فحاشاه من التدليس المذموم " {16} مع أن الذي يقرأ ما قاله الحافظ في كتابه (تغليق التعليق) أو في (هدى الساري) يدرك أن موضوع (التعليق) في صحيح البخاري هو وسام آخر علي صدر الإمام رحمه الله، إذ أنه يكشف ـ لمن اجتهد في دراسته ـ عن خبرة واسعة وفقه ثاقب 0ولقد أدرك هذه الحقيقة المهمة رجال الحديث منذ القرن الرابع ـ الذي يجعله سزكين تاريخا لمصطلح (التعليق)، وتأصلت ضوابط ذلك عند ابن حجر العسقلاني، أحسن سراج الصحيح فيما نعلم، وإنما نلخص أهم الدواعي التي جعلت الإمام البخاري يذكر الحديث معلقا فيما يلي:أولا: الأحاديث الموقوفة علي الصحابة ومن بعدهم ـ وإن صحت؛ لأن ذلك ليس من شرط الصحيح المند 0ثانيا: الحديث الصحيح الذي في إسناده بعض من لم يرق إلي شرطه في الكتاب ـ وإن كان ثقة عنده، وحديثه علي شرط غيره من جهابذة النقد، وذلك مثل قوله في كتاب الطهارة: " وقالت عائشة: كتان النبي صلي الله عليه وسلم يذكر الله علي كل أحيانه " 0 وهو حديث صحيح علي شرط

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015