وما ذكره من كلام أبي بكر بن الطلاع المالكي له وجه قوي من النظر، كما سترى إيضاحه إن شاء اللَّه تعالى.

ثم قال الحطاب: واستحب التلقين بعد الدفن أيضًا القرطبي والثعالبي وغيرهما، ويظهر من كلام الأبي في أوّل كتاب الجنائز يعني من صحيح مسلم، وفي حديث عمرو بن العاص في كتاب (الإيمان) ميل إليه. انتهى من الحطاب

وحديث عمرو بن العاص المشار إليه، هو الذي ذكرنا محل الغرض منه في كلام ابن القيم الطويل المتقدّم. قال مسلم في (صحيحه): حدّثنا محمّد بن المثنى العنزي، وأبو معن الرقاشي، وإسحاق بن منصور، كلّهم عن أبي عاصم، واللفظ لابن المثنى: حدّثنا الضحاك، يعني أبا عاصم، قال: أخبرنا حيوة بن شريح، قال: حدّثني يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة المهري، قال: "حضرنا عمرو بن العاص - وهو في سياقة الموت - فبكى طويلاً وحوّل وجهه إلى الجدار" الحديث.

وقد قدّمنا محل الغرض منه بلفظه في كلام ابن القيّم المذكور، وقدّمنا أن حديث عمرو هذا له حكم الرفع، وأنه دليل صحيح على استئناس الميّت بوجود الأحياء عند قبره.

وقال النووي في (روضة الطالبين) ما نصّه: ويستحبّ أن يلقن الميّت بعد الدفن فيقال: "يا عبد اللَّه ابن أمة اللَّه اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلاّ اللَّه، وأنّ محمّدًا رسول اللَّه، وأنَّ الجنّة حقّ، وأن النار حقّ، وأن البعث حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللَّه يبعث من في القبور، وأنت رضيت باللَّه ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وبالقرءان إمامًا، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانًا. ورد به الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قلت [النووي]: هذا التلقين استحبّه جماعات من أصحابنا، منهم القاضي حسين، وصاحب التتمة [؟؟؟]، والشيخ نصر المقدسي في كتابه (التهذيب) وغيرهم، ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقًا، والحديث الوارد فيه ضعيف، لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم، وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة؛ كحديث: "اسألوا له التثبيت"، ووصية عمرو بن العاص: "أقيموا عند قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربّي" رواه مسلم في صحيحه، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا التلقين، من العصر الأول، وفي زمن من يقتدى به. اهـ محل الغرض من كلام النووي.

وبما ذكر ابن القيّم، وابن الطلاع وصاحب المدخل من المالكية، والنووي من الشافعية، كما أوضحنا كلامهم تعلم أن التلقين بعد الدفن له وجه قوي من النظر؛ لأنه جاء فيه حديث ضعيف، واعتضد بشواهد صحيحة، وبعمل أهل الشام قديمًا ومتابعة غيرهم لهم.

وبما علم في علم الحديث من التساهل في العمل بالضعيف، في أحاديث الفضائل، ولا سيّما المعتضد منها بصحيح، وإيضاح شهادة الشواهد له أن حقيقة التلقين بعد الدفن، مركبة من شيئين:

أحدهما: سماع الميّت كلام ملقنه بعد دفنه.

والثاني: انتفاعه بذلك التلقين، وكلاهما ثابت في الجملة.

أما سماعه لكلام الملقن فيشهد له سماعه لقرع نعل الملقن الثابت في الصحيحين، وليس سماع كلامه بأبعد من سماع قرع نعله؛ كما ترى. وأمّا انتفاعه بكلام الملقن، فيشهد له انتفاعه بدعاء الحي وقت السؤال في حديث: "سلوا لأخيكم التثبيت فإنه يسأل الآن"، واحتمال الفرق بين الدعاء والتلقين قوي جدًا كما ترى؛ فإذا كان وقت السؤال ينتفع بكلام الحي الذي هو دعاؤه له، فإن ذلك يشهد لانتفاعه بكلام الحي الذي هو تلقينه إياه، وإرشاده إلى جواب الملكين، فالجميع في الأول سماع من الميت لكلام الحي، وفي الثاني انتفاع من الميت بكلام الحي وقت السؤال، وقد علمت قوة احتمال الفرق بين الدعاء والتلقين.

وفي ذلك كله دليل على سماع الميّت كلام الحي؛

ومن أوضح الشواهد للتلقين بعد الدفن السّلام عليه، وخطابه خطاب من يسمع، ويعلم عند زيارته - كما تقدّم إيضاحه - لأن كلاًّ منهما خطاب له في قبره، وقد انتصر ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير سورة (الروم) في كلامه على قوله تعالى: "فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء" إلى قوله: "فَهُم مُّسْلِمُونَ" لسماع الموتى ... اهـ

بارك الله فينا وفيكم

ـ[أبو الوليد التويجري]ــــــــ[26 - 10 - 08, 03:03 م]ـ

مما استفدتُه في دراستي الجامعة على الشيخ د. عمر المقبل:

أن التحرير الحديثي يختلف عن استنباط الأحكام، فقد يضعف الإمام أحمد حديثا ويحتج به لأمور:

1.يكون عليه العمل.

2.يكون له أسانيد تعضده.

3.عمل به الصحابة.

4. لم يجد إلا دليلاً ضعيفًا.

كذلك مما تجدر الإشارة إليه؛ أن الحديث قد يكون ضعيفًا ويعمل بمقتضاه عملاً بالإجماع.

والله أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015