وإنما ذكرها بعده الخطيب البغدادي الذي أورد كلام الباقلاني في حد العدالة، وأعاد الحديث عنها في [باب ذكر بعض أخبار من استفسر في الجرح فذكر ما لا يسقط العدالة] حيث قال:" وقد قال كثير من الناس يجب أن يكون المحدث والشاهد مجتنبين لكثير من المباحات نحو التبذل والجلوس للتنزه في الطرقات والأكل في الأسواق وصحبة العامة الأرذال والبول على قوارع الطرقات والبول قائما والانبساط إلى الخرق في المداعبة والمزاح، وكل ما قد اتفق على أنه ناقص القدر والمروءة، ورأوا أن فعل هذه الأمور يسقط العدالة ويوجب رد الشهادة، والذي عندنا في هذا الباب رد خبر فاعلي المباحات إلى العالم، والعمل في ذلك بما يقوى في نفسه، فإن غلب على ظنه من أفعال مرتكب المباح المسقط للمروءة أنه مطبوع على فعل ذلك والتساهل به مع كونه ممن لا يحمل نفسه على الكذب في خبره وشهادته بل يرى إعظام ذلك وتحريمه والتنزه عنه قبل خبره وإن ضعفت هذه الحال في نفس العالم واتهمه عندها وجب عليه ترك العمل بخبره ورد شهادته" (24).

وهذا الكلام منقول بمعناه عن الباقلاني وهو وارد في التلخيص للجويني (25).

وبعد الخطيب جاء الحافظ ابن الصلاح الذي أكد على اشتراط السلامة من خوارم المروءة في عدالة المحدث، وأزال التردد الذي أخذه الخطيب عن الباقلاني، فقال:" أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته: أن يكون عدلاً ضابطا لما يرويه، وتفصيله: أن يكون مسلماً، بالغا، عاقلا سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظا غير مغفل…" (26).

وتبع ابن الصلاح على ذلك أغلب أصحاب المختصرات وغيرهم كما تتابع الأصوليون على ذلك (27)، إلا أفراد من العلماء، كالزركشي الذي اعترض على دعوى الإجماع (28)، والصنعاني الذي قال:" واعلم أنا قد بحثنا في هذا الرسم في رسالتنا ثمرات النظر في علم الأثر وبينا فساده، وحققنا الحق في حقيقتها، وكذلك في حاشيتنا منحة الغفار على ضوء النهار، وبينا أن الرسم لا دليل عليه، وأنه لا يتم إلا في حق المعصومين" (29)، والشوكاني الذي قال: "والأولى أن يقال في تعريف العدالة إنها التمسك بآداب الشرع فمن تمسك بها فعلا وتركا فهو العدل المرضي ومن أخل بشيء منها فإن كان الإخلال بذلك الشيء يقدح في دين فاعله أو تاركه كفعل الحرام وترك الواجب فليس بعدل وأما اعتبار العادات الجارية بين الناس المختلفة باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال فلا مدخل لذلك في هذا الأمر الديني الذي تنبني عليه قنطرتان عظيمتان وجسران كبيران وهما الرواية والشهادة نعم من فعل ما يخالف ما يعده الناس مروءة عرفا لا شرعا فهو تارك للمروءة العرفية ولا يستلزم ذلك ذهاب مروءته الشرعية " (30). وفي العصر الحاضر مال الطاهر الجزائري أيضا إلى مخالفة هذا الرأي، حيث قال:" وقد اعترض بعض العلماء على إدخال المروءة في حد العدالة، لأن جلها يرجع إلى مراعاة العادات الجارية بين الناس، وهي مختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة والأجناس، وقد يدخل في المروءة عرفا ما لا يستحسن في الشرع ولا يقتضيه الطبع، على أن المروءة من الأمور التي يعسر معرفة حدها على وجه لا يخفى" (31).

وفصل الشيخ المعلمي في خصال المروءة، وتردد في اعتبار ما كان من الأعمال مباحا شرعا، وهذا نصه:" فقد يقال يلتحق بالثاني (الخصال المنهي عنها شرعا)، إذ ليس في فعل ذلك مصلحة شرعية، وفيه مفسدة شرعية وهي تعريض النفس لاحتقار الناس وذمهم. هذا وقد يقال: إذا ثبت صلاح الرجل في دينه بأن كان مجتنبا الكبائر والصغائر غالبا، فقد ثبتت عدالته، ولا يلتفت إلى خوارم المروءة، لأن الظاهر في مثل هذا أنه لا يتصور فيه أن يكون إخلاله بالمروءة غالبا عليه وعلى فرض إمكان ذلك فقد تبين من قوة إيمانه وتقواه وخوفه من الله عز وجل ما لا يحتاج إلى معاضدة خوفه من الناس، بل يظهر في هذا أن عدم مبالاته بالناس إنما هو من كمال إيمانه وتقواه.

وأما من كثر منه ارتكاب الصغائر ومع ذلك كثر منه مخالفة المروءة، ولم يبلغ أن يقال معاصيه أغلب من طاعته، فهذا محل نظر، وفصل ذلك يرجع إلى المعدل" (32).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015