والذي لا اختلاف فيه أن التزام المروءة بمعناها اللغوي والاصطلاحي من أهم الآداب التي ينبغي لطالب الحديث أن يتأدب بها، قال الخطيب:" يجب على طالب الحديث أن يتجنب اللعب والعبث والتبذل في المجالس بالسخف، والضحك، والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح والإكثار منه، فإنما يستجاز من المزاح يسيره ونادره وطريفه الذي لا يخرج عن حد الأدب وطريقة العلم، فأما متصله وفاحشه وسخيفه وما أوغر منه الصدور وجلب الشر؛ فإنه مذموم وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر، ويزيل المروءة" (19).

الفرع الثاني: تاريخ اشتراط المروءة في رواة الحديث

أما الشافعي فقد تعرض في الرسالة لشرائط الخبر المقبول فاشتراط الثقة في الدين والصدق ولم يذكر شيئا عن المروءة فقال:" ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يَجْمَعَ أُموراً: منها أن يكون مَنْ حدَّثَ به ثِقَةً في دينه معروفاً بالصِّدق في حديثه عاقِلاَ لِمَا يُحَدِّثُ به عالمِاً بما يُحيل مَعَانِيَ الحديث مِنَ اللفظ وأن يكون ممن يُؤَدِّي الحديث بحروفه كما سَمِعَ لا يحدث به على المعنى لأنه إذا حدَّث على المعنى وهو غيرُ عالمٍ بما يُحِيلُ به معناه: لم يَدْرِ لَعَلَّهُ يُحِيل الحَلاَلَ إلى الحرام وإذا أدَّاه بحروفه فلم يَبْقَ وجهٌ يُخاف فيه إحالتُهُ الحديثَ حافظاً إن حدَّث به مِنْ حِفْظِه حافظاً لكتابه إن حدَّث مِنْ كتابه. إذا شَرِكَ أهلَ الحفظ في حديث وافَقَ حديثَهم بَرِيًّا مِنْ أنْ يكونَ مُدَلِّساً يُحَدِّثُ عَن من لقي ما لم يسمعْ منه ويحدِّثَ عن النبي ما يحدث الثقات خلافَه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويكونُ هكذا مَنْ فوقَه ممَّن حدَّثه حتى يُنْتَهَى بالحديث مَوْصُولاً إلى النبي أو إلى مَنْ انْتُهِيَ به إليه دونه" (20).

هذا نصه في الرسالة في موضع الحديث عن عدالة الرواة، ولا يعارض هذا بنصه الوارد في الأم لأن مقصوده هناك الحديث عن عدالة الشهود، وقد أكد في الرسالة على الفرق بين أحكام الشهادة وأحكام الرواية.

وقد نص الأصوليون بعد الشافعي على إدخال المروءة في حد العدالة المشترطة في رواة الحديث، ومن أقدم من نص على ذلك الباقلاني كما في التلخيص للجويني وقد نقل الخطيب نص كلامه في الكفاية كاملا فقال:" … العدل هو من عرف بأداء فرائضه ولزوم ما أمر به وتوقي ما نهي عنه وتجنب الفواحش المسقطة، وتحرى الحق والواجب في أفعاله ومعاملته والتوقي في لفظه مما يثلم الدين والمروءة، فمن كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه ومعروف بالصدق في حديثه ... والواجب عندنا أن لا يرد الخبر ولا الشهادة إلا بعصيان قد اتفق على رد الخبر والشهادة به، وما يغلب به ظن الحاكم والعالم أن مقترفه غير عدل ولا مأمون عليه الكذب في الشهادة والخبر" (21).

وذكرها أيضا أبو الحسين البصري في المعتمد حيث قال وصف من تقبل روايته:" هو من اجتنب الكبائر والكذب والمسخفات من المعاصي والمباحات، ولا خلاف في اعتبار هذه الأمور فيمن يروي الخبر"، والشيرازي في اللمع حيث قال:" وينبغي أن يكون عدلا مجتنبا للكبائر متنزها عن كل ما يسقط المروءة من المجون والسخف والأكل في السوق والبول في قارعة الطريق لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة لم يؤمن من أن يتساهل في رواية مالا أصل له"، والباجي في إحكام الفصول:" والعدل هو من عرف بأداء الفرائض وامتثال ما أمر به واجتناب ما نهي عنه مما يثلم الدين أو المروءة"، وابن السمعاني في القواطع حيث ذكر في شرائط العدالة –نقلا عن بعضهم-: «والثالث أن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ويكسب الذم" (22)، وبعدهم الغزالي في المستصفى وعنه نقلها أكثر من بعده.

أما في كتب علوم الحديث فالحاكم المعاصر للباقلاني وأول من صنف في علوم الحديث كتابا جامعا شاملا فلم يتعرض لذكر المروءة في بحث العدالة، حيث قال:" وأصل عدالة المحدث أن يكون مسلما لا يدعو إلى بدعة ولا يعلن من أنواع المعاصي ما تسقط به عدالته فإن كان مع ذلك حافظا لحديثه فهي أرفع درجات المحدثين (23).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015