الثالث: أن يرغبه في العلم وطلبه في أكثر الأوقات بذكر ما أعد الله تعالى للعلماء من منازل الكرامات، وأنهم ورثة الأنبياء، وعلى منابر من نور، ونحو ذلك مما ورد في فضل العلم والعلماء من الآيات والأخبار، والآثار، والأشعار. ويرغبه مع ذلك بتدريج على ما يعين على تحصيله من الاقتصار على الميسور، وقدر الكفاية من الدنيا، والقناعة بذلك عن شغل القلب بالتعلق بها، وغلبة الفكر وتفريق الهم بسببها، فإن انصراف القلب عن تعلق الأطماع بالدنيا، والإكثار منها والتأسف على فائتها، أجمع لهمه، وأروح ليسره، وأشرف لنفسه، وأعلى لمكانته وأقل لحساده وأجدر بحفظ العلم وازدياده. ولذلك قل من نال من العلم نصيباً وافراً إلا من كان في مبادئ تحصيله على ما ذكرت من الفقر والقناعة والإعراض عن طلب الدنيا وعرضها الفاني. وسيأتي في أدب المتعلم أكثر من هذا أن شاء الله تعالى.

الرابع: أن يحب لطالبه ما يحب لنفسه، كما جاء في الحديث، ويكره له ما يكره لنفسه. وينبغي أن يعتني بمصالح الطالب ويعامله بما يعامل به اعز أولاده من الحنو والشفقة عليه، والإحسان إليه، والصبر على جفاء ربما وقع منه ونقص لا يكاد الإنسان يخلو عنه، وسوء أدب في بعض الأحيان. ويبسط عذره بحسب الإمكان، ويوقفه مع ذلك على ما يصدر منه، بنصح وتلطف، لا بتعنيف وتعسف، قاصداً بذلك حسن تربيته، وتحسين خلقه، وإصلاح شأنه فإن عرف ذلك لذكائه بالإشارة، فلا حاجة إلى صريح العبارة، وإن لم يفهم ذلك إلا بصريحها أتي به وراعى التدريج في التلطف، ويؤديه بالآداب السنية ويحرضه على الأخلاق المرضية، ويوصيه بالأمور العرفية الموافقة للأوضاع الشرعية.

الخامس: أن يسمح له بسهولة الإلقاء في تعليمه، وحسن التلطف في تفهيمه، لا سيما إذا كان أهلاً لذلك، بحسن أدبه وجودة طلبه ويحرضه على ضبط الفوائد وحفظ النوادر والفرائد، ولا يدخر عنه من أنواع العلوم، وما يسأله عنه وهو أهل له، لأن ذلك ربما يوحش الصدر، وينفر القلب، ويؤرث الو حشة، وكذلك لا يلقي إليه ما لم يتأهل له، لأن ذلك يبدد ذهنه ويعوق فهمه، فإن سأله الطالب شيئاً من ذلك لم يجبه، ويعرفه أن ذلك يضره ولا ينفعه، وإن منعه إياه شفقة عليه ولطفاً به، لا يخل عليه ثم يرغبه عند ذلك في الاجتهاد والتحصيل، ليتأهل لذلك وغيره.

السادس: أن يحرض على تعليمه وتفهيمه ببذل جهده وتقريب المعنى له من غير إكثار لا يحتمله ذهنه، أو بسط لا يضبطه حفظه، ويوضح لمتوقف الذهن العبارة، ويحتسب إعادة الشرح له، وتكراره، ويبدأ بتصوير المسائل وتوضيحها بالأمثلة وذكر الدلائل، ويقتصر على تصوير المسألة وتمثيلها لمن لم يتأهل لفهم مأخذها ودليلها، وبذكر الأدلة والمآخذ لمحتملها، ويبين له معاني أسرار حكمها وعللها، وما يتعلق بتلك المسألة، من فرع وأصل، ومن وهم فيها في حكم، أو تخريج، أو نقل بعبارة حسنة لم لأداء بعيدة عن تنقيص أحد من العلماء. ولا يمتنع من ذكر لفظة يستحيا من ذكرها عادة إذا احتيج إليها، ولم يتم التوضيح إلا بذكرها، فإن كانت الكناية تفيد معناها، وتحصيل مقتضاها تحصيلاً بيناً لم يصرح بذكره، بل يكتفي بالكتابة عِنها، وكذلك إذا كان في المجلس من لا يليق ذكرها بحضوره لحيائه أو لخفائه، فيكنى عن تلك اللفظة، ولهذه المعاني واختلاف الحال ورد في حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم التصريح تارة والكناية أخرى.

السابع: إذا فرغ الشيخ من شرح درس، فلا بأس بطرح مسائل تتعلق به على الطلبة، يمتحن بها فهمهم وضبطهم لما شرح لهم، فمن طهر استحكام فهمه له بتكرار الإصابة في جوابه شكره، ومن لم يفهمه تلطف في إعادته له، والمعنى بطرح المسائل أن الطالب ربما استحيا من قوله: لم أفهم، إما لرفع كلفة الإعادة عن الشيخ، أو لضيق الوقت، أو حياء من الحاضرين، أو كيلا تتأخر قراءتهم بسببه. وقيل لا ينبغي للشيخ أن يقول للطالب: هل فهمت؟ إلا إذا أمن من قوله: نعم، قبل أن يفهم، فإن لم يأمن من كذبه لحياء أو غيره، فلا يسأله عن فهمه، لأنه ربما وقع في الكذب بقوله: نعم، لما قلناه من الأسباب. وينبغي للشيخ أن يأمر الطلبة بالمرافقة في الدروس كما سيأتي أن شاء الله تعالى، وبإعادة الشرح بعد فراغه فيما بينهم ليثبت في أذهانهم، ويرسخ في أفهامهم، ولأنه يحثهم على استعمال الفكر، ومؤاخذة النفس بطلب التحقيق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015