ثم يشرع في هذه الصدقة العامة فتبقى التفرقة أياماً، وتعمل أثواباً ورسميات وقمصان وعراقي. ويوصي على بوابيج، وتدور أغواته على الأسواق محملين الحمال على ظهور الدواب لتلبيس الأولاد، ثم يعطوا العراقية والبابوج وزلطة واحدة إلى ما لا يحصى. وتارةً تكون الحوايج على عواتق الخدام، والآغا معهم، ويدوروا في الدراهم على المدارس والجوامع، لأنها كلها مكتوبة في دفاتر، ويعطوا الإمام والخطيب والمجاور في المسجد ونحوه، وربما حصل بعضهم له العطا مراراً لتعدد وظايفه في الجوامع، وطلعوا للصالحية وجميع الشام، لا يتركون مكاناً.
ثم له تفرقة بالمدينة المنورة على ساكنها السلام، مثل هذه. ثم إذا جاء من الحج أرسل هدايا العلماء والآغات، وأقلها ما يساوي مايةً أو خمسين، لا أقل من ذلك، وأكثرها نحو الثلثماية. فيرسل في أقلها شاشاً وقطنية وقدمةً وشيئاً من العنبر والعود ما يساوي الخمسين. ففي أيام له هذه التفرقات البالغة في الشام والحجاز مما لم يسبق إليه أحد من الخلفاء ولا السلاطين. والحاصل في الشام وفي الحجاز ما ينوف على ماية كيس لأجل المبرات والهدايا.
وأما ما يرد عليه من الأموال والهدايا والتحف مما لا يحصيه إلا الله تعالى. فإن باشة جدة أرسل إلى مكة عشرة أحمال تفاريق وصارت ترد الهدايا السلطانية من بلاد الهند وبلاد اليمن والأشراف.
وطار صيته في الآفاق، ورهبته الممالك في الآفاق، حتى إن أهل مصر خافته، وأهل مدينة مالطه من الفرنج وغيرهم. وخافه جميع الناس لشجاعته وحسن رأيه وتدبيره ومعرفة الحيل والوقايع وأحوال الحرب، وحيله وطريقه. والحاصل، صار مرجعاً لسائر الأطراف، فينفق شيء كثير، ويرد عليه شيء كثير.
ويوم قتله رجعت الشوابصة. وكان لا يأخذ المشاهرة ولا المشيخة ولا ذخيرة، بل يعطي حق الشيء، ولكن جماعته يأخذوا من الناس. وإذا كان مسافراً يأخذ له الذخيرة حين السفر لا غير. وقتل عند غابة القلنسوة بعد ذهاب العسكر والباشات، ثم غسل وكفن ودفن هناك. وقيل عمر عليه قبة لطيفة، كذا سمع، وكان في نيته أخذ مالطة من أيدي الكفار، لما يحصل منهم من الضرر في سير المسلمين من قطر صيدا إلى دمياط غالباً وقبرس وهذه الثغور.
وكان له فضيلة ومطالعة ومذاكرة للعلماء في فنون العلم، وأتى بالمصحف العثماني الذي أرسله السيد عثمان رضي الله عنه زمن خلافته، إلى بصير، قرية بأراضي حوران كبيرة، وفيها مسجد عظيم مبارك، كان مرسلاً من عثمان إلى هذا المسجد، فأتى به، وكان متروكاً في مسجد خراب، فاهتم لذلك، وصار في ذلك رأي حسن، ونعم ما صنع. وما غلبه أحد في أمر من الأمور، ولا أعجزه شيء في هذه البلاد الشامية مدة مكثه، لا يسعى في أمر إلا يتم في حضر أو سفر. حتى كان يظن له خبرة في علم الاستخدام لشدة ما يرى من استتمام أموره كلها إلا فيما يندر من الأمور.
شجاعته
وكان يقاتل العرب في طريق الحج بنفسه، ويهجم عليهم وحده أولاً، ويدخل فيهم، ثم يتتابع عسكره، حتى مهد طريق الحج الشريف واصطلح، مما يطول فيه الكلام، مما يؤدي إلى الشأم، فصار ما صار مما تقدم ذكره، فسبحان من لا تغيره المنون، ولا يصفه الواصفون.
وفي تاسع عشر صفر توفي الشاب البارع المفنن الشيخ عثمان الشهير بابن الشمعة، بالشين المعجمة والعين المهملة، بالاستسقاء، وكان من مدرسي الجامع. كان فاضلاً في الفقه واللغة والنحو والحساب والجبر والمقابلة والحديث والأصولين والمنطق والفلك وعلم التقويم وعلم القراءات وغير ذلك.