وروى ابن الجوزي في الوفاء عن عائشة قالت: لما قبض النبي صلّى الله عليه وسلّم اختلفوا في دفنه؛ فقالوا: أين يدفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال علي: إنه ليس في الأرض بقعة أكرم على الله من بقعة قبض فيها نفس نبيه صلّى الله عليه وسلّم وروى يحيى أن عليا قال لما اختلفوا: لا يدفن إلا حيث توفاه الله عز وجل، وأنهم رضوا بذلك.
قلت: ويؤخذ مما قاله على مستند نقل الإجماع السابق على تفضيل القبر الشريف؛ لسكوتهم عليه، ورجوعهم إلى الدفن به.
ولما قال الناس لأبي بكر رضي الله عنه: يا صاحب رسول الله، أين يدفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: في المكان الذي قبض الله تعالى روحه فيه؛ فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب، رواه الترمذي في شمائله، والنسائي في الكبرى، وإسناده صحيح، ورواه أبو يعلى الموصلي، ولفظه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يقبض النبي إلا في أحب الأمكنة إليه» .
قلت: وأحبها إليه أحبها إلى ربه؛ لأن حبه تابع لحب ربه إلا أن يكون حبه عن هوى نفس، وما كان أحب إلى الله ورسوله كيف لا يكون أفضل، ولهذا أخذت تفضيل المدينة على مكة من قوله صلّى الله عليه وسلّم كما في الصحيح: «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد» أي بل أشد، أو وأشد، كما روي به، ومن إجابة دعوته صلّى الله عليه وسلّم كان يحرك دابته إذا رآها من حبها.
وقد روى الحاكم في مستدركه حديث: «اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي، فأسكنّي في أحب البقاع إليك» وفي بعض طرقه أنه صلّى الله عليه وسلّم قاله حين خرج من مكة، وفي بعضها أنه وقف بالحزورة (?) ، وفي بعضها بالحجون (?) فقاله، وقد ضعفه ابن عبد البر.
قيل: ولو سلمت صحته فالمراد أحب البقاع إليك بعد مكة؛ لحديث: «إن مكة خير بلاد الله» وفي رواية: «أحب أرض الله إلى الله» ولأنه قد صح لمسجد مكة من المضاعفة زيادة على ما صح لمسجد المدينة كما سيأتي.
قلت: فيما قدمناه من دعائه صلّى الله عليه وسلّم بحبها أشد من حب مكة مع ما أشرنا إليه من إجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم ومن أنه تعالى لا يجعلها أحب إلى نبيه إلا بعد جعلها أحب إليه تعالى غنية عن صحة هذا الحديث، وكون المراد منه ما ذكر خلاف الظاهر، وما ذكر لا يصلح مستندا في