فمرت حتى دخلت على عمرو، فلما رآها قال: هلمي يا طريفة، فقالت: والنور والظلماء، والأرض والسماء، إن الماء لغائر، وإن الشجر لهالك، فقال عمرو: ومن أخبرك بذلك؟ قالت: أخبرتني المناجذ، بسنين شدائد، يقطع فيها الولد الوالد، وسلحفاة تحذف بالتراب حذفا، وتقذف بالبول قذفا، ورأيت الشجر من غير ريح ولا مطر تكفأ، قال: وما ترين ذلك؟ قالت: داهية وكيمة (?) ، وأمور جسيمة، قال: أما إن كان ذلك فلك الويل. قالت: أجل وما لعمرو فيها من نيل، مما يجيء به السيل، فألقى بنفسه على الفراش وقال: ما هذا الذي تقولين إلا أمر جليل، وخلف قليل، وأخذ القليل خير من تركه، قال عمرو: وما علامة ما تذكرين؟ قالت: إذا رأيت جرذا يكثر في السد الحفر، ويقلب منه بيديه الصخر، فاعلم أن قد وقع الأمر. فانطلق عمرو إلى السد ينظر فإذا جرذ يقلب بيديه ورجليه الصخرة ما يقلها خمسون رجلا من أسد، فرجع إلى طريفة فأخبرها.
ثم رأى عمرو رؤيا أنه لا بد من سيل العرم، وقيل: إن آية ذلك أن ترى الحصى قد ظهر في شرب النخل، فذهب فرأى ذلك، فعرف أن ذلك واقع، وأن بلادهم ستخرب، فكتم ذلك وأخفاه، وأجمع على أن يبيع كل شيء له بأرض سبأ ويخرج منها هو وولده، فخشي أن يستنكر الناس ذلك، فاحتال في الأمر، فأمر بإبل فنحرت، وبغنم فذبحت، وصنع طعاما واسعا، وبعث إلى أهل مأرب بأجمعهم، وكان فيمن دعا يتيم كان رباه وأنكحه، وقال له فيما بينه وبينه: إذا أنا جلست أطعم الناس فاجلس بجنبي ثم نازعني الحديث واردد عليّ مثل ما أقول لك، وافعل بي مثل ما أفعل بك، فكلمه عمرو في شيء، فرد عليه، فضرب عمرو وجهه وشتمه، ففعل اليتيم به مثله، فصاح عمرو: وا ذلاه، اليوم ذهب فخر عمرو ومجده، فحلف ليقتلنه، فلم يزالوا به حتى تركه، وقال: والله لا أقيم ببلدة صنع بي هذا فيه أبدا، ولأبيعن أموالي كلها وأرحل عنكم، فاغتنم الناس غضبه واشتروا منه أمواله، فباع جميع عقاره، وتبعه ناس من الأزد فباعوا أموالهم، ولما كثر البيع استنكر الناس ذلك، فأمسكوا، فلما اجتمع عند عمرو بن عامر أثمان أمواله أخبر الناس بأمر سيل العرم، فخرج من مأرب ناس كثير، وأقام بها من قضي عليه بالهلاك، هذا ما نقله رزين في تاريخه وقد اقتفيت أثره في ذلك في كتابي.
وذكر ابن هشام في سيرته نحوه، وقال: إن الأسد- يعني الأزد- قالوا: لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالهم وخرجوا معه، وقيل: كانت طريفة زوجة ثعلبة، وإنه صاحب القصة والمحتال في بيع ماله.