مما هو معلوم عند أهل الحديث أن في موطأ الإمام مالك مراسيل وبلاغات رواها كما سمعها، ولم تقع له موصولة، وقد وصلها الحافظ ابن عبد البر في كتاب التمهيد، إلا أربعة بلاغات، لم يجد لها إسنادا، ولا رآها في كتاب غير الموطأ.
وكان مولانا الشيخ الإمام الوالد رحمه الله ورضي عنه، ونفعني برضاه، أخبرني أيام الطلب، حين حدثني عن كتاب الموطأ كما حدثني عن غيره من الكتب الحديثية وغيرها، أن الحافظ ابن الصلاح وصل تلك البلاغات في رسالة خاصة.
فمنذ سمعت ذلك منه وأنا متشوق إلى الوقوف على تلك الرسالة، إلى أن يسر الله العثور عليها، فقمت بتحقيقها ونشرها.
وهي تحفة نادرة أقدمها للمشتغلين بعلم الحديث عامة، وللمهتمين بالموطأ خاصة، وأحب أن أشير إلى أمور: كثير من الناس اعتقدوا أن تلك البلاغات صحيحة بمجرد أن سمعوا أن الحافظ ابن الصلاح وصلها، وبنوا على اعتقادهم أن أحاديث الموطأ كلها صحيحة بمرسلاتها وبلاغاتها، ليس فيها حديث ضعيف، وممن صرح بذلك المرحوم الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، فإنه نقل في كتابه دليل السالك إلى موطأ مالك عن الشيخ صالح الفلاني أنه رد قول الحافظ العراقي: إن مالكا لم يفرد الصحيح في الموطأ بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات، ومن بلاغاته أحاديث لا تعرف، كما ذكره ابن عبد البر.
اهـ.
وهو كلام سليم، فبماذا رده الشيخ صالح؟ قال: وما ذكره العراقي أن من بلاغاته ما لا يعرف، مردود بأن ابن عبد البر ذكر أن جميع بلاغاته ومراسيله ومنقطعاته كلها موصولة بطرق صحاح إلا أربعة أحاديث، وقد وصل ابن الصلاح الأربعة في تأليف مستقل وهو عندي، وعليه خطه، فظهر بهذا أنه لا فرق بين البخاري والموطأ، وصح أن مالكا أول من صنف في الصحيح.
اهـ.
وعقب عليه الشيخ الشنقيطي , بقوله: والعجب من ابن الصلاح رحمه الله، كيف يطلع على اتصال جميع أحاديث الموطأ حتى إنه وصل الأربعة التي اعترف ابن عبد البر بعدم الوقوف على طرق اتصالها، ومع هذا لم يزل مقدما للصحيحين عليه في الصحة! مع أن الموطأ هو أصلهما، وقد انتهجا منهجه في سائر صنيعه.
اهـ.
وكل هذا خطأ كبير، يتبين بالوجوه الآتية: - ذكر محمد فؤاد عبد الباقي أنه عرض الكلام السابق على المحدث المرحوم الشيخ أحمد شاكر، فأملى عليه ما يأتي: لكنه لم يذكر الأسانيد التي قال الفلاني: إن ابن الصلاح وصل بها هذه الأحاديث، فلا يستطيع أهل العلم بالحديث أن يحكموا باتصالها إلا إذا وجدت الأسانيد وفحصت , حتى يتبين إن كانت متصلة أو لا، وصحيحة أو لا.
اهـ.
وهذا كلام خبير بالصناعة الحديثية، عارف بقواعدها، ولا شك أن الشيخ أحمد شاكر أعلم بالحديث من الشيخ الشنقيطي بمراحل، بل لا نسبة بينهما فيه.
- دعوى الفلاني: أن عنده تأليف ابن الصلاح وعليه خطه، دعوى غير صحيحة، بل هو لم ير ذلك التأليف، فضلا عن أن يمتلكه.
والدليل على ذلك أنه لم يذكر تلك الأحاديث في رده لكلام العراقي حافظ الدنيا، وشيخ حفاظها، ولو كانت عنده لبادر بذكر تلك الأسانيد ليسند رده بالدليل، وأيضا فإن ابن الصلاح قال في تأليفه ذاك ما نصه: والقول الفصل عندي في ذلك كله ما أنا ذاكره، وهو أن هذه الأحاديث الأربعة: لم ترد بهذا اللفظ المذكور في الموطأ إلا في الموطأ ولا ورد ما هو في معنى واحد منها بتمامه في غير الموطأ إلا حديث: إذا أنشأت بحرية.
من وجه لا يثبت، والثلاثة الأخر: واحد، وهو حديث ليلة القدر، ورد بعض معناه من وجه غير صحيح، واثنان منها، ورد بعض معناهما من وجه جيد، أحدهما: صحيح وهو حديث النسيان، والآخر: حسن وهو حديث وصية معاذ رضي الله عنه.
اهـ كلامه بحروفه.
وهو يصرح بأن حديثين من الأربعة ضعيفان، ولو رآه الفلاني لما قال في آخر رده: فظهر بهذا أنه لا فرق بين البخاري والموطأ. . . إلخ.
وأنا أقول: ظهر بهذا أن الفلاني لم ير تأليف ابن الصلاح، وأن دعواه غير صحيحة، غفر الله لنا وله.
- ولو فرضنا جدليا أن تلك الأحاديث الأربعة صحيحة، لم يكن الموطأ في درجة البخاري لأمور: أن تلك الأحاديث إنما ورد ما يصحح معناها فقط، ولفظها غير وارد إطلاقا، وأحاديث البخاري صحيحة بلفظها ومعناها.
أن البخاري صحيح في ذاته لا يحتاج إلى من يصل بعض أحاديثه، بخلاف الموطأ فإنه محتاج إلى من يصل منقطعاته ومرسلاته وبلاغاته، بحيث لا نطمئن إلى شيء منها حتى نقف على أسانيدها في التمهيد أو غيره أن الموطأ فيه أحاديث مسندة لم تبلغ درجة الصحة، ولم يخرجها البخاري، فكيف يكون الموطأ في درجته؟ ابن الصلاح هو: الحافظ تقي الدين أبو عمرو عثمان بن صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري، الشافعي المفتي ابن المفتي، ولد سنة، وتفقه على والده بشهرزور.
قال ابن خلكان: كان أحد فضلاء عصره في التفسير، والحديث، والفقه، وأسماء الرجال، وما يتعلق بعلم الحديث، ونقل اللغة، وكانت له مشاركة في فنون عديدة، وكانت فتاويه مسددة، وهو أحد أشياخي الذين انتفعت بهم.
اهـ.
وذكر أنه رحل إلى خراسان وبها حصل علم الحديث، ورحل إلى: نيسابور، وهمذان، ومرو، وحران، وبغداد، ودمشق، وحلب، والقدس، وغيرها.
قال الذهبي: قدم دمشق ودرس بالرواحية، ثم ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية وصنف وأفتى، وتخرج به الأصحاب وكان من أعلام الدين.
وقال أيضا: وكان سلفيا حسن الاعتقاد، كافا عن تأويل المتكلمين , مؤمنا بما ثبت من النصوص، غير خائض ولا متعمق، وكان وافر الجلالة، حسن البزة، كثير الهيبة، موقرا عند السلطان والأمراء.
انتقل إلى رحمة الله في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة وكثر التأسف لفقده، وحمل نعشه على الرءوس، وكان على جنازته هيبة وخشوع، فصلوا عليه بجامع دمشق، ودفنوه بمقابر الصوفية، وقبره ظاهر يزار، وعاش ستا وستين سنة، رحمة الله عليه.
اهـ.
كلام الذهبي.
أروي هذه الرسالة عن الشيخ محمد دويدار الكفراوي، عن الشيخ إبراهيم الباجوري، عن الشيخ محمد السنباوي، عن أبي الحسن علي بن محمد العربي، عن الشيخ إبراهيم الفيومي، عن الشيخ أحمد الغرقاوي، عن الشيخ علي الأجهوري، عن نور الدين علي بن أبي بكر القرافي، عن الحافظ جلال الدين السيوطي، عن القاضي علم الدين البلقيني، عن أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد التنوخي، عن أبي الحسن ابن العطار الدمشقي، عن الحافظ الزاهد أبي زكريا النووي، عن الحافظ أبي عمرو عثمان بن الصلاح رحمه الله تعالى.
أبو الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق وصل البلاغات الأربعة في الموطأ لابن الصلاح: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المنفرد بكل الحمد والثناء، والصلاة والسلام الأفضلان على رسوله خير الرسل والأنبياء، وعلى آله والنبيين، وآلهم والصالحين، دائما ذلك دوام دار الخلد والبقاء، آمين.
رغبتم رغبكم الله في رغائب المعارف، وهداكم وإيانا مناهج العوارف في إبانة الأحاديث الأربعة المنقطعة المعضلة، التي ذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر، رحمه الله وإيانا أنه لا ذكر لها في شيء من كتب العلماء إلا في الموطأ , أو كتاب من نقلها منه، ولم يروها غير الإمام مالك رضي الله عنه، وأن أذكر ما عندي في ذلك: فسألت الله العظيم من فضله، واستهديته، واستعنت به، وتبرأت إليه، واستغثت به.
فها أنا ذا مورد ما أوردتموه آثرا وذاكرا وبادئا بسياقتها على وجهها من الموطأ , بإسنادي العالي فيه.
أخبرنا الشيخ المسند أبو الحسن بن أبي الفتوح بن أبي الحسن بن المقري رحمه الله وإيانا , بقراءتي عليه، قال: أنا الشيخ الإمام أبو محمد عبد الله بن سهل بن عمر السيدي، قراءة عليه، قال: أنا أبو عثمان سعيد بن محمد البحيري، قراءة عليه، قال: أنا الفقيه أبو علي زاجرك بن أحمد السرخسي، قال: أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، قال: حدثنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري: