الأبدية*؛ وكل من ارتاض بصناعة الفكر واستحكمت له عادتها ومر في درجاتها حتى بلغ المكانة التي يستشرف منها للإلهام ويتعرض فيها بروحه وبصيرته لنبضات الوحي وانكشافات الغيب، يعلم أن كل معنى بديع يأتي به في صناعته إنما يقع له إلهامًا من ذلك المعنى الحي المتمدد في الكائنات كلها، ظاهرًا في شيء منها بالضوء، وفي أشياء بالألوان، وفي بعضها بالحركة، وفي بعضها بالانسجام، وفي بعضها بالروعة والفخامة، وفي غيرها بنبضة الهيئة؛ وظاهرًا في حالات كثيرة بأنه غير ظاهر؛ ويعرف كذلك أن هذا المعنى الشامل الذي لا يحد هو الذي ينقل الوجود كله إلى نفوس النوابغ** متى نبض في هذه النفوس الرقيقة وأشعرها سره، وإذا هم النابغة أن يتوضحه لا يرى شيئًا، وإذا أراد حجة عليه لم يستطع الجلاء عن بيانه بكلمة، وإذا التمس التعريف به لم يجد إلا ما يشهد له إحساسه وقلبه، وهذا الذي ينقدح في أذهان النوابغ أفكارًا حين يفيض لكل منهم بسبب من قراءة أو مشاهدة أو حالة أو مراس، وهو هو بعينه الذي ينقدح عشقًا في قلوب المحبين حين يتراءى لكل منهم في معنى على وجه جميل؛ ومن ثم كان النابغة في الأدب لا يتم تمامه إلا إذا أحب وعشق، وكان الأدب نفسه في تحصيل حقيقته الفلسفية ليس شيئًا سوى صناعة جمال الفكر..
وهذا العمل في ذلك الجهاز العصبي الخاص به في بعض الأدمغة هو الذي كان يسميه علماء الأدب العربي بالتوليد، وقد عرفوا أثره، ولكنهم لم يتنبهوا إلى حقيقته ولا أدركوا من سره شيئًا؛ وأحسن ما قرأناه فيه قول ابن رشيق في كتاب العمدة: "إنما سمي الشاعر شاعرًا؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره؛ فإذا لم يكن