طرفيها: وهو أن ذلك الجمال الفني في بلاغته صلى الله عليه وسلم إنما هو أثرٌ على الكلام من روحه النبوية الجديدة على الدنيا وتاريخها.
وبعد، فأنا في هذه الصفحات لا أصنع شيئًا غير تفصيل هذا الجواب وشرحه، باستخراج معانيه، واستنباط أدلته، والكشف عن أسراره وحقائقه؛ ولقد درست كلامه صلى الله عليه وسلم، وقضيت في ذلك أيامًا أتتبع السر الذي وقع في التاريخ القفر المجدب فأخصب به وأنبت للدنيا أزهاره الإنسانية الجميلة، فكانوا ناسًا إن عبتهم بشيء لم تعبهم إلا أنهم دون الملائكة؛ وكانوا ناسًا، دارت الكرة الأرضية في عدهم ثلاث دورات: واحدة حول الشمس، وثانية حول نفسها، وثالثة حول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم تركت الكلام النبوي يتكلم في نفسي ويلهمني ما أفصح به عنه، فلكأني به يقول في صفة نفسه: إني أصنع أمة لها تاريخ الأرض من بعد، فأنا أقبل من هنا وهناك، وأذهب هناك وهنا، مع القلوب والأنفس والحقائق، لا مع الكلام والناس والوقت.
إن ههنا دنيا الصحراء ستلد الدنيا المتحضرة التي من ذريتها أوربا وأمريكا؛ فالقرآن والحديث يعملان في حياة أهل الأرض بنور متمم لما يعمله نور الشمس والقمر.
وقد كان المسلمون يغزون الدنيا بأسلحة هي في ظاهرها أسلحة المقاتلين، ولكنها في معانيها أسلحة الأطباء؛ وكانوا يحملون الكتاب والسنة، ثم مضوا إلى سبيلهم وبقي الكلام من بعدهم غازيًا محاربًا في العالم كله حرب تغيير وتحويل إلى أن يدخل الإسلام على ما دخل عليه الليل*.
هذا منطلق الحديث في نفسي، وقد كنت أقرؤه وأنا أتمثله مرسلًا بتلك الفصاحة العالية من فم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يمر إعجاز الوحي أول ما يخرج به الصوت البشري إلى العالم، فلا أرى ثم إلا أن شيئًا إلهيًا عظيمًا متصلًا بروح الكون كله