فيها عمياء؛ كالغضب الأعمى، والحب الأعمى، والتكبر الأعمى؛ فإذا كانت هذه الأمة الإسلامية كما قلتِ منبعثة هذا الانبعاث، ليس فيها إلا الشعور بذاتيتها العالية, فما بعد ذلك دليل على أن هذا الدين هو شعور الإنسان بسموّ ذاتيته، وهذه هي نهاية النهايات في الفلسفة والحكمة.
قالت أرمانوسة: وما بعد ذلك دليل على أنكِ تتهيئين أن تكوني مسلمة يا مارية!
فاستضحكتا معًا وقالت مارية: إنما ألقيتِ كلامًا جاريتُكِ فيه بحسبه، فأنا وأنت كافرتان لا مسلمتان.
قال الراوي: وانهزم الروم عن بلبيس، وارتدوا إلى المقوقس في "منف"، وكان وحي أرمانوسة في مارية مدة الحصار -وهي نحو الشهر- كأنه فكر سكن فكرًا وتمدد فيه؛ فقد مر ذلك الكلام بما في عقلها من حقائق النظر في الأدب والفلسفة، فصنع ما يصنع المؤلف بكتاب ينقحه، وأنشأ لها أخيلة تجادلها وتدفعها إلى التسليم بالصحيح لأنه صحيح، والمؤكد لأنه مؤكد.
ومن طبيعة الكلام إذا أثر في النفس، أن ينتظم في مثل الحقائق الصغيرة التي تلقى للحفظ؛ فكان كلام أرمانوسة في عقل مارية هكذا: "المسيح بدء وللبدء تكملة، ما من ذلك بد. لا تكون خدمة الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها. الأمة التي تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة جبنًا وحرصًا لا تأخذ شيئًا، والتي تبذل أرواحها فقط تأخذ كل شيء".
وجعلت هذه الحقائق الإسلامية وأمثالها تُعرّب هذا العقل اليوناني؛ فلما أراد عمرو بن العاص توجيه أرمانوسة إلى أبيها، وانتهى ذلك إلى مارية قالت لها: لا يجمل بمن كانت مثلك في شرفها وعقلها أن تكون كالأخِيذة، تتوجه حيث يُسار بها؛ والرأي أن تبدئي هذا القائد قبل أن يبدأكِ؛ فأرسلي إليه فأعلميه أنك راجعة إلى أبيك، واسأليه أن يُصحبك بعض رجاله؛ فتكوني الآمرة حتى في الأسر، وتصنعي صنع بنات الملوك!
قالت أرمانوسة: فلا أجد لذلك خيرًا منك في لسانك ودهائك؛ فاذهبي إليه من قِبَلي، وسيصحبك الراهب "شطا"، وخذي معك كوكبة من فرساننا.