شدة الحرص على دعوة الخلق إلى الله:
كلما ازداد الإيمان وشعر المرء بحلاوته كلما ازدادت رغبته في دعوة الناس جميعًا إلى الله، وإلى التحرر من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وكيف لا وهو يرى الكثيرين ممن حوله يعانون من آثار القيود والسجون المعنوية المحبوسين فيها، والتي كانت تحيط به قبل ذلك، فمَنَّ الله عز وجل عليه وحرره منها، لذلك فهو لا يهدأ ولا يقر حتى يُبلِّغ الدعوة إليهم ما وسعه الجهد والوقت والمال.
ويدفعه لأداء هذا الواجب كذلك علمه بأن الدعوة إلى الله من أحب الأعمال إليه سبحانه ..
من هنا نُدرك كيف اشتد حرص الصحابة على دعوة الخلق إلى الله.
فهذا أبو بكر الصديق بعد إسلامه يُسارع بالدعوة إلى الله من وَثق به من قومه فأسلم على يديه: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عُبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف (?).
وذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا انصرف عن ثقيف اتَّبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنهم قاتلوك»، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم نخوة الامتناع للذي كان منهم، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أَحَب إليهم من أبكارهم، وكان فيهم كذلك مُحببًا مطاعًا.
فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه بمنزلته فيهم، فلما أشرف على عُلَّية (مكان مرتفع) - وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه - رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله، فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليّ (?) ..
كلما قوِي الإيمان، ازدادت حساسية الفرد تجاه الوقوع أو مجرد الاقتراب من الشبهات والمحظورات، والعكس صحيح، فكلما ضَعُف الإيمان نقصت تلك الحساسية .. يقول عبد الله بن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مَرَّ على أنفه، فقال به هكذا (?) (أي: نحَّاه بيده أو دفعه).
معنى ذلك أن درجة إيمان الفرد يعكسها شعوره وحساسيته تجاه الذنوب، وفي أي الاتجاهين تكون ..
هل تقترب من حال من يقعد تحت صخور جبل مهدد بالانهيار في أي لحظة، أم من حال من تمر ذبابة على أنفه؟
من هنا نقول بأن الإيمان الحي هو الذي يضبط سلوك الإنسان، (ويترك مع كل نفس رقيبًا لا يغفل، وحارسًا لا يسهو، وشاهدًا لا يُجامل ولا يحابي، ولا يضل ولا ينسى ... يصاحبها في الغدوة والروحة، والمجتمع والخلوة، ويرقُبها في كل زمان، ويلحظها في كل مكان، ويدفعها إلى الخيرات دفعًا، ويدعُّها عن المآثم دعًّا، ويجنبها طريق الزلل، ويبصرها سبيل الخير والشر) (?).
في يوم من الأيام ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنواع الخيل وأنها لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر.
فسئل عن الحُمُر؟ قال: «ما أنزل الله عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (?) [الزلزلة/7، 8].