ويمضي الجن في حكاية ما لقوه وما عرفوه من شأن هذه الرسالة في جنبات الكون، وفي أرجاء الوجود، وفي أحوال السماء والأرض، لينفضوا أيديهم من كل محاولة لا تتفق مع إرادة اللّه بهذه الرسالة، ومن كل ادعاء بمعرفة الغيب، ومن كل قدرة على شيء من هذا الأمر: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً. وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا؟» ..
وهذه الوقائع التي حكاها القرآن عن الجن من قولهم، توحي بأنهم قبل هذه الرسالة الأخيرة - ربما في الفترة بينها وبين الرسالة التي قبلها وهي رسالة عيسى عليه السلام - كانوا يحاولون الاتصال بالملأ الأعلى، واستراق شيء مما يدور فيه، بين الملائكة، عن شؤون الخلائق في الأرض، مما يكلفون قضاءه تنفيذا لمشيئة اللّه وقدره.
ثم يوحون بما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرافين، ليقوم هؤلاء بفتنة الناس وفق خطة إبليس! على أيدي هؤلاء الكهان والعرافين الذين يستغلون القليل من الحق فيمزجونه بالكثير من الباطل، ويروجونه بين جماهير الناس في الفترة بين الرسالتين، وخلو الأرض من رسول .. أما كيفية هذا وصورته فلم يقل لنا عنها شيئا، ولا ضرورة لتقصيها. إنما هي جملة هذه الحقيقة وفحواها.
وهذا النفر من الجن يقول: إن استراق السمع لم يعد ممكنا، وإنهم حين حاولوه الآن - وهو ما يعبرون عنه بلمس السماء - وجدوا الطريق إليه محروسا بحرس شديد، يرجمهم بالشهب، فتنقض عليهم وتقتل من توجه إليه منهم. ويعلنون أنهم لا يدرون شيئا عن الغيب المقدر للبشر: «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» .. فهذا الغيب موكول لعلم اللّه لا يعلمه سواه. فأما نحن فلا نعلم ماذا قدر اللّه لعباده في الأرض: قدر أن ينزل بهم الشر. فهم متروكون للضلال، أم قدر لهم الرشد - وهو الهداية - وقد جعلوها مقابلة للشر. فهي الخير، وعاقبتها هي الخير.
وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب، يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئا، فقد انقطع كل قول، وبطل كل زعم، وانتهى أمر الكهانة