إن الحساب والجزاء والحكم في الآخرة، إنما يقوم على عمل الناس في الدنيا ولا يحاسب الناس على ما اجترحوا في الدنيا إلا أن تكون هناك شريعة من اللّه تعين لهم ما يحل وما يحرم، مما يحاسبون يوم القيامة على أساسه وتوحد الحاكمية في الدنيا والآخرة على هذا الأساس .. فأما حين يحكم الناس في الأرض بشريعة غير شريعة اللّه فعلام يحاسبون في الآخرة؟ أيحاسبون وفق شريعة الأرض البشرية التي كانوا يحكمون بها ويتحاكمون إليها؟ أم يحاسبون وفق شريعة اللّه السماوية التي لم يكونوا يحكمون بها ولا يتحاكمون إليها؟
إنه لا بد أن يستيقن الناس أن اللّه محاسبهم على أساس شريعته هو لا شريعة العباد. وأنهم إن لم ينظموا حياتهم، ويقيموا معاملاتهم - كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم - وفق شريعة اللّه في الدنيا، فإن هذا سيكون أول ما يحاسبون عليه بين يدي اللّه. وأنهم يومئذ سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا اللّه - سبحانه - إلها في الأرض ولكنهم اتخذوا من دونه أربابا متفرقة. وأنهم محاسبون إذن على الكفر بألوهية اللّه - أو الشرك به باتباعهم شريعته في جانب العبادات والشعائر، واتباعهم شريعة غيره في النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وفي المعاملات والارتباطات - واللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .. ثم يحاكمهم إلى فطرتهم التي تعرف حقيقة الألوهية وتلتجئ إلى إلهها الحق في ساعة الشدة ويرسم لهم هذه الفطرة أمام الهول والكرب وكيف يخالفون عنها في اليسر والرخاء .. في مشهد قصير سريع، ولكنه واضح حاسم، وموح مؤثر.
إن الهول والكرب الذي ترتعد له الفرائص ليس مؤجلا دائما إلى يوم الحشر والحساب. فهم يصادفون الهول في ظلمات البر والبحر. فلا يتوجهون عند الكرب إلا للّه ولا ينجيهم من الكرب إلا اللّه .. ولكنهم يعودون إلى ما كانوا فيه من الشرك عند اليسر والرخاء: «قُلْ: مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً: لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قُلِ: اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ، ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ» ..
إن تصور الخطر، وتذكر الهول، قد يردان النفوس الجامحة، ويرققان القلوب الغليظة، ويذكران النفس لحظات الضعف والإنابة كما يذكرانها رحمة الفرج ونعمة النجاة: «قُلْ مَنْ