(وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لِأَبِي، قَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ لَيَحْلِفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ: أَمَّا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى عَدَمِ الْمُلَازَمَةِ وَالتَّكْفِيلِ وَعَدَمِ رَدِّ الْيَمِينِ) .
قَوْلُهُ: (كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: «إنَّ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ وَرَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَهَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْخُصُومَةَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ غَيْرِهِ. وَرِوَايَةُ حَدِيثِ الْبَابِ تَقْتَضِي أَنَّهُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِالْحَمْلِ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، فَإِنَّ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد فِي حَدِيثِ الْأَشْعَثِ هَذَا بِلَفْظِ «كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فِيهَا» فَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ خَصْمَهُ كَانَ يَهُودِيًّا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْغَصْبِ فَإِنَّهُ قَالَ: " إنَّ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ وَرَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ " وَالْكِنْدِيُّ هُوَ امْرُؤُ الْقِيسِ بْنُ عَابِسٍ الصَّحَابِيُّ الشَّاعِرُ، وَالْحَضْرَمِيُّ هُوَ رَبِيعَةُ بْنُ عِبْدَانَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ.
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ وَائِلٍ الْمَذْكُورُ هَهُنَا بِأَنَّ الْخُصُومَةَ فِيهِ بَيْنَ الْكِنْدِيِّ وَالْحَضْرَمِيِّ وَهُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي حَدِيثِ الْأَشْعَثِ الْمُتَقَدِّمِ، فَلَعَلَّ الرِّوَايَةَ لِقِصَّةِ الْكِنْدِيِّ وَالْحَضْرَمِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَشْعَثِ وَمِنْ طَرِيقِ وَائِلٍ وَأَمَّا الْمُخَاصَمَةُ بَيْنَ الْأَشْعَثِ وَغَرِيمِهِ فَقِصَّةٌ أُخْرَى رَوَاهَا الْأَشْعَثُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ: (فِي بِئْرٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد " فِي أَرْضٍ " وَلَا امْتِنَاعَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ صَحِيحًا، فَتَارَةً ذُكِرَتْ الْأَرْضُ لِأَنَّ الْبِئْرَ دَاخِلَةٌ فِيهَا، وَتَارَةً ذُكِرَتْ الْبِئْرُ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ. قَوْلُهُ: (يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ) التَّقْيِيدُ بِالْمُسْلِمِ لَيْسَ لِإِخْرَاجِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ، بَلْ كَأَنَّ تَخْصِيصَ الْمُسْلِمِينَ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِ الْخِطَابِ مَعَهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ الْعَظِيمَةُ مُخْتَصَّةً بِالْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْعُقُوبَةِ لَازِمًا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ
قَوْلُهُ: (لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ) هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ سَبَبٌ لَانْتِقَامِهِ وَانْتِقَامُهُ بِالنَّارِ، فَالْغَضَبُ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَلْزِمُ دُخُولَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ النَّارَ، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ» وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ ذَلِكَ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا فِي بَابِ