بَابُ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ أَعْلَمَ صَاحِبَ الْحَقِّ بِشَهَادَةٍ لَهُ عِنْدَهُ وَذَمِّ مَنْ أَدَّى شَهَادَةً مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ: أَيْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِظَاهِرِهَا فَلَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يُجِيزُ شَهَادَةَ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى بَعْضٍ
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ بِمَنْطُوقِهَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَبِإِيمَائِهَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، ثُمَّ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، فَبَقِيَتْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ عَلَى حَالِهَا. وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى التَّعَقُّبِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِأَنَّ التَّعَقُّبَ هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بِاعْتِبَارِ اسْتِدْلَالِهِ، وَخَصَّ جَمَاعَةٌ الْقَبُولَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَبِالْوَصِيَّةِ وَبِفَقْدِ الْمُسْلِمِ حِينَئِذٍ، وَمِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبُ وَشُرَيْحٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَحْمَدُ وَأَخَذُوا بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَحَدِيثِ الْبَابِ فَإِنَّ سِيَاقَهُ مُطَابِقٌ لَظَاهِرِ الْآيَةِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْغَيْرِ غَيْرُ الْعَشِيرَةِ وَالْمَعْنَى مِنْكُمْ: أَيْ مِنْ عَشِيرَتِكُمْ {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] أَيْ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِكُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
وَاسْتَدَلَّ لَهُ النَّحَّاسُ بِأَنَّ لَفْظَ آخَرَ لَا بُدَّ أَنْ يُشَارِكَ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الصِّفَةِ حَتَّى لَا يَسُوغَ أَنْ يَقُولَ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ كَرِيمٍ وَلَئِيمٍ آخَرَ، فَعَلَى هَذَا فَقَدْ وَصَفَ الِاثَنَانِ بِالْعَدَالَةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْآخَرَانِ كَذَلِكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ سَاغَ فِي الْآيَةِ لَكِنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَالصَّحَابِيُّ إذَا حَكَى سَبَبَ النُّزُولِ كَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: اتِّفَاقًا. وَأَيْضًا فَفِيمَا قَالَ رَدُّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ؛ لِأَنَّ اتِّصَافَ الْكَافِرِ بِالْعَدَالَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ فَرْعُ قَبُولِ شَهَادَتِهِ، فَمَنْ قَبِلَهَا وَصَفَهُ بِهَا وَمَنْ لَا فَلَا
وَاعْتَرَضَ أَبُو حَيَّانَ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ. فَلَوْ قُلْت: جَاءَنِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ وَآخَرُ كَافِرٌ صَحَّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْت: جَاءَنِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ آخَرُ. وَالْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ لَا الثَّانِي لِأَنَّ قَوْلَهُ " آخَرَانِ " مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ: اثْنَانِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صِفَةُ رَجُلَانِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَرَجُلَانِ اثْنَانِ وَرَجُلَانِ آخَرَانِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَاحْتَجُّوا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَالْكَافِرُ شَرٌّ مِنْ الْفَاسِقِ
وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ أَحَدِهِمَا وَبِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ مُسَافِرًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ قَالَ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ عَمِلَ بِذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ. وَذَهَبَ الْكَرَابِيسِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَآخَرُونَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ فِي الْآيَةِ الْيَمِينُ. قَالُوا: وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْيَمِينَ شَهَادَةً فِي آيَةِ اللِّعَانِ وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ، وَأَنَّ