بَابُ الْمُحَارِبِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا لَا الْأَشْيَاءُ الْمَخْصُوصَةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ إنَّمَا هُوَ مِنْ اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، وَعُرْفُ الشَّرْعِ إطْلَاقُ الْحَدِّ عَلَى كُلِّ عُقُوبَةٍ لِمَعْصِيَةٍ مِنْ الْمَعَاصِي كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً.
وَنَسَبَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إلَى بَعْضِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُ، وَإِلَيْهَا ذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَقَالَ: الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ الْمَذْكُورِ فِي التَّأْدِيبِ لِلْمَصَالِحِ كَتَأْدِيبِ الْأَبِ ابْنَهُ الصَّغِيرَ. وَاعْتُرِضَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ الشَّارِعَ يُطْلِقُ الْحُدُودَ عَلَى الْعُقُوبَاتِ الْمَخْصُوصَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: إنَّ أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى الْعَمَلِ بِحَدِيثِ الْبَابِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ اللَّيْثُ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَإِسْحَاقُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَالْإِمَامُ يَحْيَى إلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ وَلِكَيْ لَا يَبْلُغُ إلَى أَدْنَى الْحُدُودِ.
وَذَهَبَ الْهَادِي وَالْقَاسِمُ وَالنَّاصِرُ وَأَبُو طَالِبٍ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي كُلِّ مُوجِبٍ لِلتَّعْزِيرِ دُونَ حَدِّ جِنْسِهِ، وَإِلَى مِثْلِ ذَلِكَ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنَّهُ مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ بَالِغًا مَا بَلَغَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: أَكْثَرُهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، هَكَذَا حَكَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْبَحْرِ، وَاَلَّذِي حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَاعَى النُّقْصَانُ عَنْ الْحَدِّ.
قَالَ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَمَنْسُوخٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَاحْتَجَّ بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ انْتَهَى. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الصَّحَابَةِ آثَارٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي مِقْدَارِ التَّعْزِيرِ وَأَحْسَنُ مَا يُصَارُ إلَيْهِ فِي هَذَا مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي بُرْدَةَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ. قَالَ الْحَافِظُ: فَتَبَيَّنَ بِمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنْ لَا اتِّفَاقَ عَلَى عَمَلٍ فِي ذَلِكَ، وَكَيْفَ يُدَّعَى نَسْخُ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ وَيُصَارُ إلَى مَا يُخَالِفُهُ مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ وَسَبَقَ إلَى دَعْوَى عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ الْأَصِيلِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَعُمْدَتُهُمْ كَوْنُ عُمَرَ جَلَدَ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ وَأَنَّ الْحَدَّ الْأَصْلِيَّ أَرْبَعُونَ، وَالْبَاقِيَةُ ضَرَبَهَا تَعْزِيرًا، لَكِنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ السَّابِقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ إنَّمَا ضَرَبَ ثَمَانِينَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ الْحَدُّ، وَأَمَّا النَّسْخُ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّأْدِيبِ الصَّادِرِ مِنْ غَيْرِ الْوُلَاةِ كَالسَّيِّدِ يَضْرِبُ عَبْدَهُ، وَالزَّوْجُ يَضْرِبُ زَوْجَتَهُ، وَالْأَبُ يَضْرِبُ وَلَدَهُ. وَالْحَقُّ الْعَمَلُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ، وَلَيْسَ لِمَنْ خَالَفَهُ مُتَمَسَّكٌ يَصْلُحُ لِلْمُعَارَضَةِ. وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَخَالَفَهُ النَّوَوِيُّ فَنَقَلَ عَنْ الْجُمْهُورِ عَدَمَ الْقَوْلِ بِهِ، وَلَكِنْ إذَا جَاءَ نَهْرُ اللَّهِ بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِلٍ، فَلَا يَنْبَغِي لِمُنْصِفٍ التَّعْوِيلُ عَلَى قَوْلِ أَحَدٍ عِنْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
دَعُوا كُلَّ قَوْلٍ عِنْدَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ... فَمَا آمِنٌ فِي دِينِهِ كَمُخَاطِرِ