سافرت من سنوات وجزعت عرض الجزيرة من البحر إلى البحر، من جدة إلى الظهران، فلقيت صاحبنا في إحدى المحطات التي وقف عليها قطارنا في نجد، ووجدته قد أثرى واغتنى وصار ذا مال وبنين، ولكنه لا يزال على جفوته، لا يعرف من مظاهر الحضارة التي يتمتع بها الناس إلا خيمته والوعاء الذي يستقي به الماء من البئر والسّراج الذي يشعله إذا أظلم الليل؛ لا يدخل مدن نجد ولا يرى ما فيها فضلاً عن أن يؤمّ غيرها، ولا يعرف ضوء الكهرباء، ولا ركب الطيارة ولا سمع بالرادّ ولا بشيء من أدوات المدنية الحديثة. فتركت القطار وبقيت معه يوماً أنِستُ فيه بلقائه وجدّدت العهد به، ثم دعوته لزيارة الشام كَرّةً أخرى، فتأبّى ثم لان ولبّى، فأخذتُه معي إلى الظهران ومعه ثلاثة من أولاده، ثم ركبنا الطيارة إلى دمشق.
وكان معه مال كثير، فأحببت أن أريه من مظاهر الحضارة ونِعَم الله على أهلها (وإن كان أكثرهم لا يحسن الشكر عليها)، فاستأجرت له في بلودان (?) قصراً مُنيفاً لواحد من المُترَفين المسرفين لم يَدَعْ شيئاً مما وصلت إليه مدنية العصر إلا أودع منه في هذا القصر، ففيه التدفئة المركزية للشتاء وفيه المكيفات للصيف، وفيه المصعد الآلي، وفي مطبخه البرّاد والغسّالة والعصّارة وأجهزة تقشير الخُضَر وغسل الأواني وتقطيع الخبز وتجميره، كل ذلك على الكهرباء، وفيه الماء جارياً أبداً حاراً وبارداً.