قلت: لما كان الأصل براءة الذمة يمتنع الحكم بكونها مشغولة إلا بدليل سمعي، فإذ لم يوجد دليل سمعي سوى الإجماع، وهو لا يثبت إلا أقل ما قيل لم يثبت شغل الذمة إلا بذلك الأقل. فيحصل اليقين بالخروج عن العهدة بأداء الأقل.
لا يقال: هب أنه لم يوجد جليل سمعي سوى الإجماع، لكنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فلعله ثبت في الذمة حق أزيد من أقل ما قيل، وحينئذ لا يحصل الخروج عن العهدة بيقين إلا بأداء الأكثر.
سلمنا أنه لا بد من وجود الدليل لكن لا نسلم أنه لم يوجد؛ وهذا لأنه يحتمل أن يكون حاصلًا لكن ربما أخطأ المجتهد فاعتقد عدم دلالة الدليل فحينئذ يكون شغل الذمة بالأكثر حاصلًا في نفس الأمر فلا يحصل الخروج عن العهدة إلا بأدائه؛ لأنا نقول: الجواب عن الأول: الحق أنه وإن كان لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لكن ذلك في الأمور الحقيقية لا في الأمور الشرعية التكليفية فإن تجويز ذلك فيه يستلزم تكليف ما لا يطاق.
بيانه فيما نحن فيه: أنه لما لم يوجد دليل سمعي سوى الإجماع، والإجماع لم يدل إلا على أقل ما قيل كان الزائد على ذلك القدر لو ثبت لثبت من غير دليل والتكليف بالمدلول من غير دليل تكليف بما لا يطاق.
وعن الثاني: أنا إن قلنا: إن كل مجتهد مصيب فقد سقط ذلك وإن لم نقل به فالجواب: أن ذلك خلاف الأصل.
سلمناه لكن يصير حكم الله تعالى في حقه إذ ذاك ذلك الذي غلب على ظنه وإن كان خلاف الواقع وحينئذ لا يكون مكلفًا إلا بما غلب على ظنه فيخرج عن العهدة بأدائه وإلا لزم تكليف ما لا يطاق وهو ممتنع.