سلمنا أن الاتفاقي بجميع جهاته لا يكون أكثريًا، لكن ما نحن فيه ليس كذلك بل هو اتفاقي من حيث المصلحة ومعلوم السبب من حيث أنه لا يأتي إلا بالمصلحة فلم قلت إن مثله من الاتفاقي لا يكون أكثريًا؟ ثم جواز كونه أكثريًا حينئذ بيِّن، وبهذا خرج الجواب عن قوله إنه يبطل دلالة أحكام الفعل على العلم؛ لأن ذلك اتفاقي بجميع جهاته، ولأنا لا نجوز ذلك ولو مرة واحدة على سبيل الاتفاق.
وعن الوجه الثاني: أنا لا نسلم أن ما نحن فيه حكم الشيء قبل العلم أو الظن بحسنه؛ وهذا لأن معنى ما نحن فيه أنك إن اخترت الفعل فاحكم على الأمة بالفعل، وإن اخترت الترك فاحكم عليهم بالترك، وذلك ليس حكمًا بالشيء قبل العلم أو الظن بحسنه بل بعده؛ لأنه بالفعل علم أو ظن حسنه ثم حكم به على الأمة فلم يلزم منه ما ذكرتم من المحذور.
وأجيب أيضًا: بالنقض بما إذا أفتى أحد المفتيين المتساويين بالحظر، والآخر بالإباحة فإن المستفتي مخير في العمل بأيهما شاء مع أن ذلك قبل العلم أو الظن بحسنه أو قبحه.
وفيه نظر؛ لأن فعل العامي غير مشروط بالعلم أو الظن يحسن الفعل بل ما أفتى به المفتي؛ بخلاف المجتهد فإنه لا يجوز له أن يفعله ويحكم ما لم يغلب على ظنه اشتمال الفعل على المصلحة فلم يحصل.
سلمنا أنه حكم قبل العلم أو الظن بحسن الفعل لكن ما هو المقصود من اشتراط ذلك وهو أن يأمن المكلف من فعل القبيح حاصل فيما نحن فيه بالطريق الولى؛ لأنه حين يفعل الفعل بناء على غلبة ظنه بحسنه أو علمه بحسنه جاز أن لا يكون علمه وظنه مطابقًا فيقع في فعل المفسدة بخلاف ما إذا قال له الشارع: احكم فإنك لا تحكم إلا بالحق فإن احتمال ذلك غير متصور