احتج الجماهير: بأن الأمة مجمعة على تكذيب اليهود والنصارى وسائر الملل الباطلة، فما يخبرونه عن مذاهبهم الباطلة، مع قطعهم بأن فيهم من لا يعلم بطلانه بل هم الأكثر، فلو كان الكذب هو الخبر الغير المطابق مع العلم بأنه غير مطابق لما كان ذلك الإجماع صحيحا.
فإن قلت: لا نسلم انعقاد الإجماع على تكذيبهم على وجه الحقيقة بل على وجه التجوز.
ووجه التجوز هو: أنه لما كانت أدلة الإسلام وما يتبعه من الحق قوية جلية في غاية الجلاء كان حالهم في الإخبار عن ضد مدلولاتها شبيها بحال من أخبر عن الشيء مع العلم بفساده.
قلت: ما ذكرتم وإن كان محتملا لكن الأصل في الإطلاق الحقيقة سواء كان الإطلاق من أهل الإجماع أو من غيره، فلما أجمعوا على تكذيبهم مع عدم علمهم به دل ظاهرا على أن الكذب هو الخبر الغير المطابق سواء كان مع العلم به أولا مع العلم به.
واحتج الجاحظ بالنص والمعقول:
أما النص فآيتان - أحدهما: قوله تعالى: حكاية عن الكفار: {أفترى على الله "كذبا" أم به جنة}.
ووجه الاستدلال به: [هو أنهم] جعلوا إخباره عن نبوته إما كذبا، وإما جنونا، وإخباره عن نبوته حالة الجنون ليس كذبا؛ لأنه جعل قسيما للكذب، فقسيم الكذب لا يكون كذبا، وليس هو صدقا أيضا، لأنهم لم يعتقدوا مطابقته على التقديرين، فإخباره عن نبوته - عليه السلام - حالة