العقلية، والمنعم هو البارئ سبحانه وتعالى، والدليل على عدم الوجوب النقل والعقل، أما النقل فقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] فانتفاء التعذيب قبل البعثة دليل على أنه لا وجوب قبلها؛ لأن الواجب هو الذي يصح أن يعاقب تاركه، وإذا لم يكن الوجوب ثابتا قبلها لم يكن الوجوب عقليا، فإن قيل: عدم العقاب لا يدل على عدم الوجوب لجواز العفو، قلنا: المنفي هو صحة التعذيب؛ لأن قولنا: ما كان لزيد أن يفعل كذا فيه إشعار بذلك، وأيضا فإن الخصم يقول بأنه يجب التعذيب قبل التوبة فألزمناه به, وعلى هذا فالملازمة بين نفي التعذيب وعدم الوجوب إلزامية، وعلى الأول حقيقة وبرهانية، ولك أن تقول: هذه الآية تدل على إبطال حكم العقل مطلقا؛ لأنها نفت التعذيب قبل التوبة لا في شكر المنعم فقط، وهو خلاف المقصود؛ لأن البحث على تقدير تسليم حكم العقل، وللمعتزلة أيضا هنا اعتراضات ضعيفة، كقولهم: يحتمل أن يكون المنفي هو مباشرة التعذيب فإنه مدلول، وما كنا أو المنفي وقوعه قبل البعثة لا وقوعه مطلقا، فقد يتأخر للقيامة، أو الرسول هو العقل، وأما الدليل الثاني وهو الدليل العقلي فلأنه لو وجب لامتنع أن يجب لا لفائدة لأنه عبث، والعقل لا يوجب العبث، ولأن المعقول من الوجوب ترتب الثواب على الفعل والعقاب على الترك، فإذا لم يتحقق ذلك لم يتحقق الوجوب، ويمتنع أيضا أن يجب لفائدة؛ لأن تلك الفائدة لا جائز أن تكون راجعة إلى المشكور وهو البارئ سبحانه وتعالى؛ لأن الفائدة إما جلب منفعة أو دفع مضرة والبارئ تعالى منزه عن ذلك، ولا إلى الشاكر في الدنيا؛ لأن الاشتغال بالشكر كلفة عاجلة ومشقة على النفس لا حظ لها فيه، ولا في الآخرة أيضا؛ لأن العقل لا يستقل بمعرفة الفائدة في الآخرة أو معرفة الآخرة نفسها دون إخبار الشارع ولا ذكر لهذا التعليل المذكور في القسم الأخير في كلام الإمام ولا أتباعه, ولقائل أن يقول: لا نسلم انحصار القسمة في عود الفائدة إلى الشاكر والمشكور بل لا بد من إبطال عودها إلى غيرهما أيضا سلمنا, قال الآمدي في الأحكام: فقد تكون الفائدة راجعة إلى الشاكر في الدنيا، وكون الشكر مشقة لا ينفي حصول فائدة مترتبة عليه كاستمرار الصحة وسلامة الأعضاء الباطنة والظاهرة وزيادة الرزق ودفع القحط, إلى غير ذلك مما لا ينحصر، بل الغالب أن الفوائد لا تحصل إلا بالمشاق فقد يكون الشكر سببا لشيء من هذه الفوائد على معنى أن يكون شرطا في حصوله، وأيضا فقد يكون الشيء ضررًا، ويكون دفعا لضرر أزيد منه كقطع اليد المتألمة. قوله: "قيل: يدفع ظن ضرر الأجل" هذا اعتراض للمعتزلة على قولنا: لا فائدة فيه. قالوا: بل له فائدة وهو الخروج عن العهدة بيقين، فإنه يجوز أن يكون خالقه طلب منه الشكر فيقول: إن أتيت به سلمت من العقوبة, وإن تركته فقد يكون أوجبه علي فيعاقبني عليه فيكون الإتيان به يدفع احتمال العقوبة، وتعبير المصنف بالظن فيه نظر؛ لأن الظن هو الغالب ولا غالب إنما الحاصل هو العقوبة،