"الكتاب السادس: في التعادل والتراجيح, وفيه أبواب: الباب الأول: في تعادل الأمارتين في نفس الأمر, منعه الكرخي وجوزه قوم, وحينئذ فالتخيير عند القاضي وأبي علي وابنه, والتساقط عند بعض الفقهاء، فلو حكم القاضي بإحداهما مرة لم يحكم بالأخرى، أي: لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه: "لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين". أقول: لما فرغ المصنف من تقرير الأدلة، شرع في بيان حكمها عند تعارضها، فتكلم في التعادل والتراجيح؛ وذلك لأنها إذا تعارضت فإن لم يكن لبعضها مزية على البعض الآخر فهو التعادل, وإن كان فهو الترجيح، ثم إنه جعل الكتاب مشتملا على أربعة أبواب, الأول منها في التعادل والثلاثة الباقية في التراجيح؛ وذلك لأن الكلام في التراجيح، إن لم يختص بدليل معين فهو البحث عن الأحكام الكلية كما سيأتي، وإن اختص فالدليل الذي يرجح على معارضه، إما كتاب، أو إجماع، أو خبر، أو قياس، فالكتاب والإجماع لا يجري فيهما الترجيح, أما الكتاب فلأنه لا ترجيح لإحدى الآيتين على الأخرى عند تعارضهما، إلا بأن تكون إحداهما مخصصة للأخرى، أو ناسخة لها، وقد سبق الكلام فيهما فلا حاجة إلى إعادته، مع أنه قد أشار إليه في الحكم الرابع من الأحكام الكلية للترجيح، وأما الإجماع فلأنه لا تعارض فيه كما تقدم في موضعه. فتلخص أن الترجيح إنما يكون لأحد الخبرين على الآخر أو لأحد القياسين على الآخر؛ فلذلك انحصرت مباحث الترجيح في الأبواب الثلاثة. إذا علمت ذلك فنقول: التعادل بين الدليلين القطعيين ممتنع لما ستعرفه، وكذلك بين القطعي والظني, لكن القطعي مقدم، وأما التعادل بين الأمارتين أي: الدليلين الظنيين فاتفقوا على جوازه بالنسبة إلى نفس المجتهد، واختلفوا في جوازه في نفس الأمر, فمنعه الكرخي وكذلك الإمام أحمد كما نقله ابن الحاجب؛ لأنهما لو تعادلا فإن عمل المجتهد بكل واحد منهما لزم اجتماع المتنافيين, وإن لم يعمل بواحد منهما لزم أن يكون نصبهما عبثا، وهو على الله تعالى محال، وإن عمل بأحدهما نظر إن عيناه له كان تحكما وقولا في الدين التشهي، وإن خيرناه كان ترجيحا، لأمارة الإباحة على أمارة الحرمة، وقد ثبت بطلانه أيضا وذهب الجمهور إلى جواز التعادل كما حكاه عنهم الإمام، وكذلك الآمدي وابن الحاجب واختاراه، لأنه لا يمتنع أن يخبر أحد العدلين عن وجود شيء والآخر عن عدمه، وأجابوا عن دليل المانعين بأنا لا نسلم الحصر فيما ذكروه من الأقسام، فإنه قد بقي قسم رابع وهو العمل بمجموعهما، وذلك بأن يجعلا كالدليل الواحد وحينئذ فيقف المجتهد أو يتخير, سلمنا لكن لا نسلم امتناع ترك العمل بهما والرجوع إلى غيرهما، والقول بلزوم العبث مبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، واختار الآمدي ومن تبعه كصاحب الحاصل، طريقة لم يذكرها المصنف، فقالوا: إن كانت الأمارتان على حكم واحد في فعلين متنافيين فهو جائز وواقع، ومقتضاه التخيير، والدليل على الوقوع أن من دخل الكعبة فله أن يستقبل شيئا من الجدران، وكذلك من ملك مائتين من الإبل فله أن يخرج أربعة حقاق أو خمس بنات لبون، وإن كانتا على حكمين متنافيين لفعل واحد كإباحة وحرمة فهو جائز عقلا وممتنع شرعا، هذا معنى ما قاله وكلامه في الاستدلال يدل عليه فافهمه. قوله: "حينئذ" أي: وإذا جوزنا تعادل الأمارتين في نفس الأمر, فقد اختلفوا في حكمه عند